العراق وحروب الجيل الخامس

التصنيف: دراسات

تاريخ النشر: 2022-03-13 07:54:11

الباحث / زهير حمودي الجبوري

 

المقدمة :

   الحرب ظاهرة انسانية موغلة في القدم بل ارتبطت ببداية الوجود الانساني على الارض، فالإنسان حارب الطبيعة والحيوانات ومن ثم ابناء جنسه الانساني من اجل الحفاظ على الحياة والبقاء .

   وفي الوقت نفسه، فإن الحرب ظاهرة متغيرة ومتطورة من ناحية الميدان والخطط والأدوات والآثار بفعل التطور الانساني وما انتجته من ثورات معلوماتية غيرت من معالم الجوانب الحياتية المختلفة، ولكن رغم هذا التغير فان دوافع الحرب قد تكون نفسها منذ انطلاقها الى اليوم فمنها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والايدولوجية الا ان الحرب تظهر بصورة متقاربة تتركز على استخدام القوة بكل انواعها لإرغام العدو وتحقيق المصالح المرجوة .

   ورسمت نتائج الحروب وخاصة الكونية منها خريطة التوازنات الدولية وحددت ملامح القوى العظمى لكل حقبة زمنية بما يتناسب مع تغير معالم القوة من ميزات جغرافية الى هيمنة تسليحية الى سيادة معلوماتية .

 

تمهيد

مفهوم الحرب وأجيال الحروب :

   الحرب في ابسط مفاهيمها هي صراع بين طرفين يحاول كل منهما اخضاع الطرف الاخر لإرادته بالقوة المتاحة .

   ولكن المختصين تباينوا فيما بينهم حول تعريف موحد لمفهوم الحرب وكل حسب رؤيته وتجربته، الا ان القاموس العسكري عرف الحرب بأنها: فن استخدام موارد القوة العسكرية في نزاع مسلح بين دولتين أو اكثر من الكيانات غير المنسجمة، الهدف منها اعادة تنظيم الجغرافيا السياسية للحصول على نتائج ورغبات(1).

   فيما ذهب أوبنهايم إلى أن الحرب: نزاع مسلح بين دولتين أو اكثر بقصد الغلبة وفرض شروط السلام تكون وفق رؤية المنتصر، والحرب حقيقة يعترف بوجودها القانون وان كان لا يقرها(2).

   فيما يرى الخبير العسكري الالماني (من إقليم بروسيا) كارل فون كلاوزفيتز بأن الحرب: استمرار للسياسة ولكن بطريقة أخرى والنجاح يعتمد فيها على التنظيم والانضباط واستعمال الاستراتيجيات المتفوقة التي ابتكرتها عسكرية واسعة الخبرة(3).

   وبعد فترة زمنية طويلة يأتي المفكر الفرنسي ميشيل فوكو ليعكس تعريف (كلاوزفير) ويقول ان السياسة هي امتداد للحرب بوسائل اخرى بفعل التطور الذي طال الحروب في اساليبها وخططها وأدواتها، وهذا ما نراه بوضوح ونحن نستعرض اجيال الحروب .

أجيال الحروب :

   دأب المختصون بالعلوم الحربية على تصنيف الحروب الى أجيال بحسب الخطط والأفكار والتقنيات المستخدمة في هذه الحروب، ولكنهم اعتمدوا عام 1648 كبداية للجيل الاول من الحرب كون هذا العام شهد توقيع معاهدة ويستفاليا التي اسست الى ظهور الدولة القومية الحديثة التي اشكلت مشروعية ممارسة القوة كفاعل دولي .

   ويرى توماس هامز ان محركات التغيير تكمن في تطور البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لعبت دورا هاما في احداث تلك التفاعلات بين الاجيال(4).

أ – الجيل الاول :

   وهي الحروب التقليدية التي تدور بين جيشين محتشدين بهيئة صفوف متراصة ومتقابلة بشكل تصادمي في ميدان واحد وبدون حواجز طبيعية وتتم المعركة في نفس الميدان .

   كما تميزت حروب الجيل الاول بالضبط العسكري الصارم وتنفيذ الاوامر مع توحيد الزي العسكري للمقاتلين تمييزا عن المدنيين، (اتسمت حروب هذا الجيل بالطبع الصارم والزي والسلوك العسكري الواضح والطاعة مقدمة فيها على المبادأة)(5).

ب- الجيل الثاني :

   التطور التكنولوجي في الميدان الصناعي والعسكري أطر ملامح وسمات الجيل الثاني للحروب التي بدأت مع انطلاق الحروب النابليونية في اوربا وانتهت بانتهاء الحرب العالمية الثانية، (ان التطور الذي حصل في تقنيات استخدام النيران ووسائل قذفها وأدواتها من دبابات وطيران جعل لها خصوصية اكثر دقة من ناحية القدرة على احداث اكبر قدر من الخسائر)(6).

   وهذا التطور التقني فرض نمطا جديدا تمثل في الاعداد والسبق والتنسيق العالي بين مختلف الوحدات القتالية المشتركة في الحرب .

   كما ان حروب هذا الجيل ابرزت عقائد عسكرية جديدة تمثلت بأسلوب المباغتة والمفاجأة بالقتال وحولت هدف الحرب من الحسم العسكري في ارض المعركة الى استنزاف العدو وتعطيل قدراته من خلال المناورة والالتفاف بدل المواجهة المباشرة.

   وتلخصت العقيدة القتالية الجديدة بمبدأ: ان المدفعية تقهر والمشاة تحتل في ظل التنسيق بين نيران المدفعية وتمركز المدرعات وقوات المشاة في ارض المعركة(7).

جـ - الجيل الثالث :

   شكلت نهاية الحرب العالمية الاولى وتجاربها بداية الجيل الثالث من الحروب التي طورت من قبل الجيوش الالمانية كوسيلة لردم فجوة عدم التكافؤ بالإمكانيات ين الجيوش واعتمدت اسلوب التسلل والالتفاف خلف خطوط العدو وبغية اضعاف قدرته وتحقيق عنصر المفاجئة وتحول جوهر العمل العسكري الى التركيز على الوضع القتالي وحالة العدو والنتائج المرجوة وليست على الاجراءات المحققة وبالتالي انتهت فكرة الحرب كسباق دفع بين طرفين(8).

   كما ان حروب الجيل الثالث خففت من قيود الضبط العسكري والقيادة الصارمة التي شهدتها حروب الجيلين السابقين ومنحت فرصة للمقاتلين بالمبادرة واتخاذ القرارات الفورية وشجعت روح المبادرة وليس الطاعة وحدها، لذا كانت آلية اتخاذ القرار تتسم باللامركزية، كما ان تطور نظم الاتصالات وظهور الاسلحة الحديثة والطائرات المقاتلة فرض افكار وتكتيكات عسكرية جديدة ومختلفة .

حروب الجيل الرابع :

   احدثت حروب الجيل الرابع نقلة نوعية في اجيال الحروب من ناحية الميدان والأساليب والخطط رغم بقاء نفس الهدف، وكان عام 1954 يمثل بداية حروب هذا الجيل بالتزامن مع حرب التحرير الجزائرية وحرب الفيتناميين ضد الاحتلال الفرنسي لبلادهما .

   جوهر حروب الجيل الرابع هو تفادي المواجهة المباشرة مع الخصم عندما يكون الطرفان غير متكافئين في الامكانيات والقدرات، وهي من نتاج العقلية العسكرية الامريكية لذا وصفت من قبل بعض الخبراء العسكريين بأنها طريقة لخوض حروب يستخدم فيها الطرفان بصورة ملحوظة تكتيكات وأسلحة مختلفة، بسبب خلل واضح في توازن القوى بين طرفين متحاربين تجعلهم لا يستخدمون طرقا متشابه دائما(9).

   لا تسعى حروب الجيل الرابع الى تحقيق النصر في المواجهة العسكرية بل تعمل على انهاك قوة الدولة المعادية وإضعاف ارادتها وتدمير وضعها النفسي لإجبارها على تنفيذ ما تريد، كما ان ساحة ميدان الحرب في الجيل الرابع توسعت لتشمل حتى المناطق المدنية وقد يستهدف من خلالها حتى المدنيين نتيجة التداخل بين ما هو عسكري وبين ما هو مدني، ويلعب الاعلام دورا في كسب هذه الحروب من خلال استهداف الشعوب والتأثير على نفسيتهم وكسر الارادة ومن ثم زعزعة الثقة بالحكومة لتكوين الهزيمة الشعبية مقدمة لهزيمة الحكومة وجيوشها (تعتمد حروب الجيل الرابع على التأثيرات النفسية والمعنوية للشعوب للتشكيك بالنظام السياسي وإضعاف ثقة الشعوب على قدرة النظام في تحقيق اهدافه مستخدمة بتلك الوسائل التكنولوجية والإعلامية)(10).

   كما ان من سمات حروب الجيل الرابع انها حروب سائبة النهاية وتفتقد الى مخارج نهاية الحروب لذا تكون طويلة الامد .

   كما اتسمت حروب هذا الجيل باختلاط الفعل السياسي والإعلامي والاجتماعي مع الفعل العسكري في ميدان المعركة المفتوحة مساحته على كامل جغرافية البلد .

المبحث الاول

مفهوم ودوافع حروب الجيل الخامس

مفهوم حروب الجيل الخامس :

   احدثت حروب الجيل الخامس نقلة نوعية في اجيال الحروب اكثر منها مرحلة متطورة عن اجيال الحروب السابقة، فهي صراع توظف فيه كل المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية والمعلوماتية باستخدام التكتيكات التقليدية وغير التقليدية بمشاركة الفاعلين من الدول ومن غير الدول تهدف الى اخضاع الخصم مع تجنب المسؤولية المباشرة للصراع، لذا عرفها توماس بارتث بأنها القدرة على تعطيل كل دفاعات العدو بحرب شاملة نفسية وثقافية واقتصادية ومالية وبيئية وبايلوجية وفايروسية يقودها الاعلام ووسائل الاتصال بصفة اساسية(11).

   ويذهب البعض إلى ان فلسفة حروب الجيل الخامس مستمدة من النظرية الاقتصادية (التدمير والبناء) التي طرحها عالم الاقتصاد والسياسة الامريكي جوزف شومبيتر التي تبنتها فيما بعد وزيرة الخارجية الامريكية كوندليزا رايس بعنوان الفوضى الخلاقة عام 2005 لتطبيق مشروع الشرق الاوسط الجديد .

    لكن عام 2013 شهد بلورة الصياغات الفعلية لحروب الجيل الخامس على يد مجاميع من المفكرين العسكريين والمهتمين بالأمن القومي ودبلوماسيين وضباط مخابرات وخبراء انترنت وتواصل اجتماعي اضافة الى علماء النفس وعلماء الاجتماع على اثر احداث الحادي عشر من أيلول 2001، مستندة على ضرورة إدخال تغييرات عن الصورة المألوفة للحروب باعتماد تكنولوجيا المعلومات في اطار سمي (المعهد التعليمي لحروب الجيل الخامس).

   لذا وصفه الكاتب الامريكي جون روب في مؤلفه عن حروب الجيل الخامس: أنها حرب أفكار، انها تطلق دوامة من العنف وتزداد بأسلوب التدمير الفجائي لقوى الخصم معنويا ونفسيا بإطلاق عملية من شأنها إشاعة الاحباط لدى الخصم، وأن ميدانها الفضاء الالكتروني)(12).

 

-دوافع وملامح حروب الجيل الخامس :

   لن تختلف دوافع حروب الجيل الخامس عن دوافع اجيال الحروب التي سبقتها حيث ترجع الى الاسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تهدف الى السيطرة والهيمنة وتحقيق الاهداف وإجبار الخصوم على الرضوخ .

   لكن ملامح وسمات حروب الجيل الخامس اختلفت كليا عن الحروب السابقة بظهور عوامل جديدة منها تراجع احتكار الدولة لاستخدام القوة وبروز فواعل من غير الدول امتلكت القدرة على الدخول في الصراعات، ومنها ضعف الولاء الوطني قبالة صعود ولاءات فرعية بديلة طغت على الولاء للدولة، وكذلك تسارع وتيرة التطور التقني وخاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي وأنظمة التسليح الحديثة وسهولة امتلاكها من غير الدول (ان دور مؤسسات الدولة التي كانت تتحكم في مفاصل الحكم سابقا قد انحسر بشكل ملحوظ ربما الى درجة فقدانه بعضا من سلطاتها ... كما ان التحولات في الجبهة العسكرية جذرية فالراديونات، والذكاء الصناعي يؤمنان الاسس والأدوات لتحويل الحروب التي كنا نعرفها الى صفحة مطوية من التاريخ)(13).

 

ومن ابرز سمات حروب الجيل الخامس :

أ – انتشار المناطق الرمادية (تلاشي الحدود).

   وتعني اتباع تكتيكات متنوعة تسعى الى تحق اهداف الحرب ولكن من دون قتال وتعتمد التداخل بين الصراع والسلام والعسكري والمدني والداخلي والخارجي (التفاعلات بين دواخل الفواعل من الدول وغير الدول والتي تقع في منطقة وسط بين ثنائية الحرب والسلام، وتتسم بوجود غموض حول طبيعة الصراع والأطراف المنخرطة فيه, فضلا عن عدم التعيين حيال السياسة التي يجب اتباعها)(14).

وتتجلى هذه التكتيكات بدءا من الهدف الذي تحول من تحقيق نصر عسكري حاسم في ميدان المعركة الى هزيمة الخصم تدريجيا وداخليا خلال مدة زمنية مفتوحة غير محددة .

توسيع ساحة المعركة وتلاشي الفواصل والحدود ما يعد ارض معركة وما لا يعد، حيث اصبح ميدان القتال متاح للمراكز البحثية ووسائل الاعلام والمؤسسات الاقتصادية والمجمعات العلمية والمراكز الدينية وحتى الفضاء الالكتروني واصبح الجميع فاعل ومؤثر في ميدان القتال المفتوح على مصراعيه .

اختفاء الفواصل بين ما هو سلاح قاتل فعلي وبين ما لا يعد سلاحا لكنه يمارس في التاثير وتحقيق الهدف، أي بما ان ميدان القتال توسع بشكل كبير فاخذ باستيعاب اسلحة جديدة مثل الاعلام وصفحات التواصل الاجتماعي التي تعمل على التحشيد والتعبئة وزرع الافكار وتغير الاتجاهات التي تساهم في اضعاف الجبهة الداخلية للخصم وتضعف قدراته كمقدمة للانهيار.

   تراجع الفروقات بين ما هو مدني وعسكري، فصار بالإمكان تطويع التطبيقات المدنية في شن الهجمات العسكرية، كما يمكن توظيف الانترنت في شن الهجمات المعلوماتية، وفي استخدام الطائرات المدنية في عمليات قتالية كما حدث في هجمات 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة الامريكية .

   كما ان اعتماد المناطق الرمادية في القتال تحقق انعدام المسؤولية القانونية عن الفاعل الخفي وتساعد على خفض تكلفة الحروب مع تزايد الاعتماد المتبادل الاقتصادي الاجتماعي بين الدول .

   ويمكن اعتماد تجربة الارهاب (تنظيم القاعدة وداعش) صورة ونموذج لانتشار المناطق الرمادية في نشاطها داخل العراق، فتوسعت ساحة المعركة لتشمل الاسواق والمدارس والمنفذون من المدنيين المنظمين لهذه الفصائل واستعانوا بالانترنت لتجنيد العناصر وتدريبهم وبنفس الوقت التأثير النفسي على الخصوم ونشر مقاطع عملياتهم الاجرامية لزيادة مساحة الرعب والخوف عند الناس، كما تم توظيف المنتجات ذات الاستخدام المشترك مثل الاسمدة الزراعية كأحد اسلحة القتل.

ب- تشكيل التحالفات الواسعة :

   اعتمدت حروب الجيل الخامس على تشكيل قاعدة عريضة من التحالفات اضافة الى الدول تساهم بشكل وآخر في احداث هذه الحروب منها كيانات عابرة للحدود، جماعات اثنية او قومية، فصائل المتمردين، جماعات قبلية، مؤسسات اعلامية، وناشطين احيانا وحتى بعض الخارجين عن القانون .

   ان اتساع ميدان المعركة ادى الى تراجع دور القوات المسلحة التقليدية وإفساح المجال الى هذه الجماعات ولكن بدعم مباشر او غير مباشر من المؤسسة العسكرية التقليدية وبصورة غير معلقة (تنتهج الدولة سياسة توازن خارجي بمعنى التحالف مع فاعلين دوليين آخرين ضد القوة المحددة بالإضافة الى الانخراط في علاقات تعاونية او تكاملية مع جيوش غير متطورة من الفاعلين من دون الدول)(15) .

جـ - اتباع الحروب الهجينة :

   وتعرف بأنها (تلك الصراعات التي تتضمن الجمع بين استخدام القوات المسلحة التقليدية والقوات غير النظامية مستخدمة كل الوسائل السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والمعلوماتية من اجل تحقيق هدف سياسي مشترك)(16) وقد تكون الفواعل جماعات ارهابية او حركات تمرد او فصائل مسلحة قائمة على التغيرات والتناقضات المجتمعية توظف من قبل القوة العسكرية والاقتصادية والمعلوماتية لإحداث التخريب السياسي لتحقيق نصر عسكري، ويمكن اعتماد ثورات الربيع العربي كنموذج من تكتيكات الحرب الهجينة.

   كما يمكن اعتبار تنظيم داعش الارهابي كنموذج واضح حيث اثبتت الوقائع ان افراده تلقو تدريبات ودعم من جيوش تقليدية مجهولة عمل على احداث انهيار لقوات الدولة التقليدية وسقوط مدن بيد التنظيم مع توفر امكانيات عسكرية متطورة تؤكد هذا الدعم بالرغم من مجهوليته وكنه ساهم بشكل آخر في عودة وجود قوات التحالف الدولي الى العراق بطلب من الحكومة لتقديم الدعم والإسناد لإيقاف المد الداعشي .

 د- غياب الطابع المؤسسي :

   في اجيال الحرب السابقة كان الصراع يجمع بين كيانات تتمتع بهياكل مؤسسية لها مركز ثقل واضح وقيادات معروفة وتسلسل هرمي للقيادة اضافة الى وجود مبررات قانونية وأخلاقية لخوض الحروب ولكن وفق معايير دولية لا يمكن تجاوزها .

  وهذا ما افتقدته حروب الجيل الخامس بشكل واضح حيث ان الكيانات المتصارعة كيانات شبكية بدون هيكلية ثابتة مع غياب او اخفاء القيادة المركزية، كما انها تعمل بصورة لا مركزية اقرب الى حرب العصابات، كما انها تستهدف الخصم من كافة مؤسساته المدنية والعسكرية مخالفة الاعراف والقوانين الدولية الخاصة بالحروب ونطاق تأثيرها .

   كما ان هذه التنظيمات لا تملك مركز ثقل يمكن استهدافه لأنهم (لا يمثلون قوة عسكرية منتظمة، بل

يرتكزون حول فكرة او معتقد، وهجومهم عدميا غير عقلاني، ويصيغون حروبا داخلية سياسية او اقتصادية واجتماعية من داخل الدولة المستهدفة واستنزافها بالصراعات الداخلية وعدم مواجهة التهديدات الخارجية)(17).

المبحث الثاني

مجالات وأشكال حروب الجيل الخامس

   من اهم سمات حروب الجيل الخامس هي تجاوزها آخر مجالات الصراع في الحروب السابقة فلم يعد البر والبحر والجو والفضاء يستوعب حروب الجيل الخامس التي اصبحت حرب بلا قيود أو مجموعة من الحروب تشن في الوقت ذاته على الدولة المستهدفة، ومن هذه المجالات:

اولا: الحرب الاقتصادية

  وإن كان الدافع الاقتصادي ملازما لانطلاق اول الحروب ومجالا من مجالات الصراع في حروب الاجيال السابقة، الا انه في حروب الجيل الخامس شغل حيزا اكبر وتعددت آلياته .

   وكان العامل الاقتصادي بارزا في الحربين العالميتين الاولى والثانية، كما ان الصراع على مصادر الطاقة ومصادر المياه والهيمنة على الاسواق الدولية من ملامح اغلب الحروب وحتى الثنائية، وندرج ادناه بعض اوجه الصراع الاقتصادي في حروب الجيل الخامس.

أ- المقاطعة الاقتصادية

   ويقصد بها المقاطعة الكاملة لسلع احدى الدول وعدم الاستيراد منها والتصدير اليها على الاطلاق ومن اهمها مقاطعة السلع الغذائية، ومن نماذج السابقة توجيه المهاتما غاندي الشعب الهندي بمقاطعة البضائع البريطانية، وفي الوقت الحاضر المقاطعة المفروضة على النفط الايراني .

ب- الحصار الاقتصادي والعسكري:

   وهو نطاق اوسع من المقاطعة ويتمثل بفرض جوي وبحري ويسري على الدولة المستهدفة، وهو اكثر الاسلحة الاقتصادية فتكا وتأثيرا لما يترتب عليه من نتائج اقتصادية واجتماعية وصحية تنال الشعوب والحكومات معا، ومن ابرز نماذجه هو الحصار الذي فرض على العراق بعد اجتياح الكويت بقرار رقم 661 الصادر من الامم المتحدة عام 1990 والذي استمر لمدة 13 عام والذي انتج انهيارا اقتصاديا للدولة العراقية وعملتها وتراجع كبير في مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وكارثة انسانية بسبب نقص الغذاء والدواء وتعطيل البنى التحتية، ظلت آثاره حتى بعد تغيير النظام السياسي في العراق عام 2003م .

جـ - اغراق واختراق واحتكار الاسواق

   استهداف السوق المحلي للدولة من الخارج احد وجوه الحرب الاقتصادية من حروب الجيل الخامس وتعمل على ضرب الانتاج الداخلي وإضعافه؛ لإغلاق قطاعات العمل وتعطيل الانتاج مما يرهق ميزانية الدولة بالاستيراد ويرفع معدل البطالة في المجتمع الذي يؤدي بدوره إلى اختلالات اجتماعية كبيرة تولد ازمات جديدة مثل الجرائم والسرقات.

د- خلق الازمات الاقتصادية

   وجه من وجوه الحرب الاقتصادية ويظهر باشكال متعددة منها افتعال ازمات اقتصادية بين الدول المتجاورة او اغراق الدولة بالديون والقروض خاصة الخارجية وبسبب عجز الدولة عن تسديد الديون وتضخم الفوائد على القروض مما يجبر الحكومة على ايقاف برامج التنمية وتهديد الاستقرار الداخلي او رهن القرار السياسي للدولة الى الجهة المدنية (اذ سرعان ما سوف تتلاحق الانذارات ثم تتبعها المقاطعة الاقتصادية التي قد تصل الى درجة منع هذه الدولة من استخدام العملات العالمية ثم التحريض ثم تعريض مصالحها الاقليمية للخطر)(18).

   ويمكن ان تكون القروض من قبل مؤسسات مالية عالمية  تدار بصورة غير مباشرة من الدول الكبرى تمنح القروض مع فرض خطط اقتصادية على الدولة المستهدفة مثل رفع الدعم عن السلع والخدمات الاساسية بما يمهد لمزيد من الاختلالات في المجتمع.

   والعراق تعرض الى هذه الحرب الاقتصادية بأشكال متعددة، مثل ما ترتب على ازمة دخول داعش الى المحافظات العراقية وتسلل عناصر التنظيم الى العراق، والتي جعلت الدولة تخصص اغلب ميزانيتها لخدمة المجهود الحربي وتوقفت اغلب المشاريع الخدمية ومشاريع البنى التحتية .

ه- خطط ضمان التبعية الاقتصادية

   يتفق المختصون ان الفاعل الاقتصادي هو المحرك الاساسي لأغلب الصراعات السياسية واستخدام العامل الاقتصادي بكل اساليبه للهجمة على القرار السياسي ومنها ربط الدول المستهدفة بالمحاور الاقتصادية العالمية (ان الصراع بين الدول الكبرى يسعى لفتح اسواق خارجية والمحافظة عليها وتشكيل احلاف اقتصادية للوصول الى التكامل الاقتصادي في مواجهة الدول الاخرى)(20).

   والعراق اليوم واقع تحت تأثير صراع محورين اقتصاديين متنافسين تحركهما ايدولوجيات متباينة اولهما مشروع  (الشام الجديد) الذي اعلن عنه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بعد زيارته لواشنطن عام 2020 لتشمل العراق والأردن ومصر بأهداف اقتصادية وسياسية مشتركة ترعاه الولايات المتحدة، ومشروع (الحزام والطريق) الذي تقوده الصين ليكون العراق نقطة ربط رئيسية في طريق الحرير الجديد وممرا لعبور المنتجات الصينية من خلال موانئ العراق وطرقه البرية الى اوربا .

و- صناعة الجوع

   غذاء وقوت الشعب اصبح احد اوجه حروب الجيل الخامس وجعلها وسيلة لحث الشعب على الضغط على الحكومة لتستغل الدول الكبرى لاخضاع الدولة المستهدفة الى رغبات الارادة الخارجية، وإن استهداف الزراعة والصناعة وتعطيلهما عن دورهما في بناء الاقتصاد الوطني ومن ثم ازدياد حالة البطالة واللجوء الى المساعدات الانسانية من الشركات المتعددة الجنسيات التي تظهر كمنفذ لازمة الشعب وقد شهد العراق عمليات متعددة لاحراق مزارع المحاصيل الاستراتيجية عند موسم الحصاد وغيرها .

ثانيا: حرب العملات

   ظهر هذا المصطلح لأول مرة خلال عام 2008 في كتاب (حرب العملات) للباحث الامريكي من اصل صيني ستوغ هونغ بينغ ليعني (اعتماد دولة ما على قوتها الاقتصادية لتقليص قوة تنافسية الدول وتقليص حجم ثرواتها عن طريق استخدام السياسة النقدية والتدخل في اسواق تبادل المعلومات بهدف تحقيق افضلية على باقي الدول)(21).

   وأصبح استخدام السياسة النقدية عبر التدخل في اسعار الصرف وتبادل العملات احد اوجه الحرب الاقتصادية الناعمة بهدف تقليص القوة التنافسية للدول المستهدفة، (ان حرب العملات في اطار حروب الجيل الخامس تسعى الى خفض ميزة تنافسية للعملة مقابل نظيراتها الاخرى من خلال تقليل اسعار الصرف)(22).

ثالثا: حرب المياه

   ارتبط نشوء الحضارات جغرافيا على ضفاف الانهار، واليوم اصبحت عاملا هاما في تشكيل السياسة الدولية وحياة الشعوب، فتحولت المياه من مصدر للعيش والحياة الى مفتاح السيادة والنفوذ وباب للحروب المستقبلية.

   وقد اشارت ورقة تقييم المخاطر التي اعدتها وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية الى أنه (توجد على الاقل عشرة مواقع في العالم، يمكن ان تنفجر فيها الحرب، بسبب تناقض مصادر المياه المشت بين دولها ويمكن ان تقع معظم هذه الازمات المحتملة في الشرق الاوسط)(23).

   وتشير التقارير ان أزمة المياه ستتفاقم في عام 2040 بشكل كبير، وأن العجز في توفير مياه الشرب الكافية سيؤدي الى حالة خطيرة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في الشرق الاوسط، والعراق يعاني اليوم من حرب المياه بصورة واضحة إذ يعاني شحة مياه الري الواردة اليه من دول المنبع عبر نهري دجلة والفرات اللذان ينبعان من تركيا التي تقوم بانشاء العديد من المشاريع لخزن المياه والسدود في اراضيها دون مراعاة الحاجة الانسانية للمياه في العراق (انخفض منسوب نهر الفرات عند الحدود سورية بنسبة 65,5٪، كما ان ايران اقامت بعض المشاريع على منابع نهري ديالى والطيب والزاب الاسفل)(24) ما اصبح مصدر تهديد للامن الغذائي مع انحسار المساحات المزروعة ليبقى العراق سوقا لتصريف المنتجات الزراعية لدول الجوار وحرمان العديد من فرص العمل ورهن حتى المواقف السياسية مقابل التهديد بزعزعة الامن الغذائي.

رابعا: الحرب البايلوجية

   ويقصد بها: (الاستخدام المتعمد للسلالات المسببة للأمراض الكائنات الدقيقة كالجراثيم والفايروسات او سمومها لنشر امراض تهدد حياة البشر والحيوان والنبات بهدف قتل سكان منطقة معينة)(25)، وقد استخدمت الحرب البايلوجية كأحد وسائل حروب الجيل الخامس في العراق بقذف السلاح البايلوجي باستعمال رؤوس الذخائر الحربية او قنابل الطائرات او رؤوس الصواريخ في حرب الخليج الثانية (تحرير الكويت) من قبل قوات التحالف، لذلك ثم تطعيم افراد قوات التحالف لوقايتهم من الاصابة ببكتريا الجمرة الخبيث بعد تهديد صدام حسين باستخدام السلاح البايلوجي ضد قوات التحالف(26).

   كما ان التنظيمات الارهابية قامت باستعمال الاسلحة البايلوجية في عملياتها الارهابية ضد المدنيين العراقيين، حيث اشارت الحكومة العراقية ان خبراء فرنسيين فحصوا المادة الكيميائية التي عثروا عليها في المعمل التابع لتنظيم داعش وتوصلوا الى انه غاز الخردل وكان الموقع يستخدم لاجراء التجارب لانتاج الاسلحة الكيميائية عام 2017 في مدينة الموصل .

   وقد اشار تقرير نشر على موقع قناة الجزيرة الالكتروني بتاريخ 19/11/2015 الى ان اليورانيوم المنضب الذي استعمل في العراق من قبل قوات التحالف الدولي في حرب تحرير الكويت وحرب احتلال العراق يساوي في ذريته ما يعادل 250 فتيلة ذرية، وان علماء البيئة استطاعوا قياس مستويات عالية من اليورانيوم في عينات من التربة من مناطق عدة في العراق ويرجع إليه السبب في زيادة نسبة الاصابة بمرض السرطان والتشوهات الخلقية في هذه المناطق .

خامسا: الحرب البيئية

   اتسع مجال حروب الجيل الخامس لتشمل البيئة لتكون احد ادوات الصراع وصعوبة حمايتها من تأثيرات الحروب باعتبار أن الحرب تقوض مفهوم الامن الشامل بجميع ابعاده ومنها الامن البيئي، واستخدمت الدول الكبرى في سباقها على السيطرة على الموارد المالية الحروب البيئية لتعديل المناخ واستقرار المنظومات الزراعية والبيئية .

   كما ان الحروب البيئية قد توظف لإحداث زلازل وفيضانات وأعاصير وعدد من الظواهر التي قد تبدو طبيعية ولكنها مصطنعة في حقيقتها.

   لم يكن العراق بعيدا عن الحرب البيئية فلقد شهد ارتفاع في معدلات التلوث بشكل كبير بسبب انتشار مصادر حرق الوقود وعوادم السيارات ومولدات الطاقة الكهربائية.

   كما ان اتساع رقعة المناطق الصحراوية وانحسار المساحات المزروعة ساعد على كثرة العواصف الترابية.

   وقد اشار تقرير دولي خاص بالبيئة العراقية اعده مجموعة من الباحثين الامريكيين في مركز دراسات الحرب ان الغبار في العراق يحتوي على 37 نوع من المعادن ذات التأثير الخطير على الصحة العامة اضافة الى 147 نوعا مختلفا من البكتريا والفطريات التي تساعد على انتشار الامراض(27).

سادسا : حرب المخدرات

   انه نوع من الحروب لا تستخدم فيها اصواريخ والطائرات بل هي حرب تسميم العقول وتدمير الاجسام وسلاحها الحبوب والمواد المخدرة التي يروج لها مافيات وعصابات مجهولة تستهدف الشباب لتنقلهم الى عالم الضياع والموت .

   المخدرات وباء لا يستهدف نفس الانسان فقط بل يعمل على افساد الجانب الاخلاقي للمجتمع ويضعف الارادة لتتحول الى خطر اجتماعي (ان اهم ما يحرص عليه الذين يشنون حروب الجيل الخامس ضد دولة ما ان تجعل عصابات المافيا تدمر الدولة المستهدفة بحرب المخدرات حتى يتم تدمير الدولة من داخلها)(28).

     وقد انتجت هذه الحرب الخبيثة مئات المجرمين وعمليات الانتحار والجرائم المختلفة التي هددت الامن المجتمعي وحولت الشباب من عضو فاعل ومنتج الى فتيلة موقوتة تهدد ام المجتمع بالجرائم والضياع.

 

سابعا : الحماية العسكرية

   تسعى الدول الكبرى الى اقامة قواعد عسكرية داخل الدول المستهدفة بحجة الحماية العسكرية من التهديدات الخارجية او الارهابية.

   ويستغل هذا الوجود العسكري مرة لفرض الارادة والقرار السياسي الخارجي على الدولة او السيطرة على الموارد والثروات والتحكم بها، او وسيلة لاستقطاب بعض المتعاونين لتقديم المعلومات الامنية او التأثير على افكار الناس لقبول هذا الوجود الاجنبي واستمرار وجوده.

   المبحث الثالث

أساليب مواجهة حروب الجيل الخامس

   ان تعقيدات حروب الجيل الخامس وشموليتها وتعدد ميادينها خلق صعوبة كبيرة اساليب معالجتها ومقاومتها، فهي تحتاج الى توظيف تكتيكات عسكرية ومدنية وتقنية واقتصادية وثقافية تعمل بصورة متزامنة ولفترة طويلة للنجاح في الوقوف بوجه آليات حروب الجيل الخامس، ومن هذه الاساليب :

اولا: سياسات الحكم الرشيد

   يعرف الحكم الرشيد بأنه (الحكم الذي يعزز ويدعم ويصون رفاه الانسان ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويسعى الى تمثيل كافة فئات الشعب تمثيلا كاملا، وتكون مسؤولة ادامته لضمان مصالح جميع افراد الشعب)(1).

   وبما ان حروب الجيل الخامس تستهدف بنية المجتمع الثقافية والاقتصادية وكافة مؤسساته وشرائحه (تعتمد هذه الحروب على التأثيرات النفسية والمعنوية للشعوب ونشر الشائعات من خلال التشكيك بالنظام السياسي وإضعاف ثقة الشعوب على قدرة النظام على تحقيق اهدافه مستخدمة في ذلك الوسائل التكنولوجية والإعلامية)(2)، وسبيل مواجهتها يتمثل بالعمل على تحصين المجتمع من المخاطر عن طريق كسب ولائه وزيادة ثقته بالدولة ليكون سندا لأجهزتها ومساعدا لنقل المعلومات الامنية ورصدها ونقلها اذا كانت تستهدف كيان الدولة وتتطلب هذه الثقة المتبادلة تطبيق الدولة لسياسات الحكم الرشيد الذي يركز على سعة مشاركة المواطنين في العملية السياسية وتشريع القوانين على تحسين الوضع الاقتصادي للمواطن، وتأمين الحماية اللازمة واعطاء المواطنين دورا رقابيا لمحاربة الفساد وانتشاره، ولابد من توفير فرص العمل لقطاع الشباب باعتبارهم الشريحة الاكثر تطلعا لبناء المستقبل والاكثر انفتاحا على الثقافات الاخرى والاشد تاثرا بها وكان على الدولة لزاما استيعابهم في مشاريعها المتنوعة .

   ويعاني العراقيون من غياب واضح لسياسات الحكم الرشيد من قبل الحكومات المتعاقبة تمظهر في عدة مظاهر منها انخفاض نسبة المشاركة في العملية الانتخابية، مما يدلل على اتساع ازمة الثقة بين الجماهير وصناع القرار، وكذلك عدم وجود محاسبة حقيقية لحالات الفساد المنتشرة من مؤسسات الدولة، وعدم قدرة الحكومة على استيعاب الشباب وتوفير فرص العمل الملائمة الذي كان من اهم دوافع الحركات الاحتجاجية التي ساهمت في عدم الاستقرار السياسي وهنا نحتاج الى تغير جذري للوصول الى الحكم الرشيد.

ثانيا: الاستثمار في تكنولوجيا المراقبة والرصد

   يتفق المختصون على ان تكنولوجيا المعلومات من اهم اسلحة حروب الجيل الخامس فمن خلال هذه التقنيات اخترقت سيادة الدول وامكن سهولة التواصل مع الشعوب والتلاعب بعقولهم والتأثير في مدركاتهم وللحد من تأثير هذه الوسائل التقنية لابد للدول المستهدفة ان تنشئ الاجهزة والمؤسسات المختصة والمؤهلة لرصد ومراقبة هكذا مشاريع وتهديدات لها اثر على مجتمع الدولة المستهدفة (ان تطور الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي جعل امكانية تحديد هوية الاطراف الفاعلة في هذه الحروب غير واضح في كل الحالات، خاصة مع لجوء الدول الى توظيف مجموعات تنشط على التواصل الاجتماعي للدولة المستهدفة تسعى لرصد الجدل الدائر في القضايا التي تزيد انقسام المجتمع)(3).

   ومن اول خطوات مواجهة حروب الجيل الخامس المعلوماتية هو تأسيس شركة اتصالات وطنية تتحكم فيها الحكومة وتشرف عليها مؤسسة امنية وعسكرية وثقافية وقانونية تعمل على تقنية التواصل الاجتماعي من عمليات التجسس والتخابر مع الدول المعادية ورصد ومراقبة المواضيع المطروحة ومعرفة مصادر الصفحات المشبوهة وذات الاغراض المخالفة لتوجهات الدولة، ومن ثم نشر المعلومات والافكار التي تفشل مخططات الخصوم (على الدولة المستهدفة امتلاك القدرة على امتصاص واستيعاب الهجمات بفاعلية من خلال تطوير نظم الانذار المبكر والقيادة والتحكم والاتصالات والحوسبة، والاستخبارات والمراقبة، والاستطلاع المبكر لاي هجوم وكذلك تعزيز البنية التحتية)(4).

رابعا: استراتيجيات مواجهة نشر المعلومات والاخبار الكاذبة

لما كانت حروب الجيل الخامس تستهدف احتلال العقول والتلاعب بمدركاتها وقناعاتها من اجل دفع الناس للسخط على النظام السياسي والغضب على الاوضاع العامة، وتدفع باتجاه التشكيك في شرعيتها فكان نشر الاشاعات والإخبار الكاذبة والفيديوهات المفتعلة من اهم وسائلها في تحقيق عدم الاستقرار ولمعالجة هذا الاسلوب يتطلب من الدولة المستهدفة اصدار التشريعات والأنظمة والقوانين التي تحد من انتشار الاخبار الكاذبة ومحاسبة الجهات والأشخاص التي تعمل على فبركة هكذا مواضيع تخل بالأمن المجتمعي (ان الاخبار الكاذبة لم تعد مصدر ازعاج للناس فحسب بل اصبحت خطرا يفض مضاجع الحكومات والدول بعدما ثبت انها سلاحا تستخدمه بعض اجهزة الاستخبارات للتضليل والتأثير على الرأي العام او تصدير القلاقل وزعزعة الامن)(5).

  كما ان الشفافية في تبادل المعلومات ونقل الاخبار بين الحكومة والمواطن يولد ثقة متبادلة تساهم في عدم مقبولية الاخبار الكاذبة ذاتيا وعدم تداولها بل قد يكون المواطن نفسه مفندا ومكذبا لمثل هذه المعلومات المغلوطة، كما ان وعي المواطن واطلاعه على مسار عمل الحكومات ومشاركته في صنع القرار يقف سدا بوجه انتشار الاخبار الكاذبة .

رابعا: التعامل مع التحالفات الاقليمية والدولية (بناء وتفكيك).

   التحالف مفهوم سياسي يعني تجمع دولتين او اكثر في حلف واحد لمواجهة قوة اخرى، وذلك تحقيقا للتوازن فيما بينهما أي الاعتماد على الاحلاف كاداة من ادوات السياسة بهدف حماية الامن القومي والدفاع عن مصالحها الوطنية(6).

   وتسعى الدول من خلال سياسة بناء التحالفات الى ردع الاعداء والسعي لزيادة قوتها، وتامين امنها القومي بوجه التهديدات سواء كانت من دولة او تحالفات اخرى.

   وعندما تشعر الدولة بالضعف في وسط الصراعات الدولية تلجأ الى الدخول في تحالفات اقليمية ودولية لمواجهة تهديدات غير قادرة لوحدها مواجهته، علما ان مثل هذه التحالفات قد توفر ضمانات امنية وكلها بنفس الوقت قد تسلب بعض من الارادة السياسية للبلد او تفقد الدولة ميزة الحياد والتأني عن سياسة المحاور (قد تنتهج الدولة سياسة توازن خارجي بمعنى التحالف مع فاعلين دوليين اخرين ضد القوة المهددة بالاضافة الى الانخراط في علاقات تكاملية او تعاونية، فضلا عن اتباع سياسة توازن داخلي يمثل بزيادة قدراتها العسكرية وتحديثها باستمرار)(7).

   وقد اعتمد بناء التحالفات كاحد وسائل مواجهة حروب الجيل الخامس او قد تضطر الدولة المستهدفة كوسيلة دفاعية للعمل على تفكيك التحالفات الدولية المعادية.

   وتهدف هذه الاستراتيجية (تفكيك التحالفات) الى تقليل عدم الخصوم او العمل على تشتيت جهودهم من خلال اقناع بعض اطراف التحالف بموقف حيادي او الانسحاب وهذا اسلوب قديم في الحروب حيث اشار المؤرخ الحربي الصيني ـ صن تزو- بقوله (عندما يكون خصومك متحدين، اعمل على تقسيمهم اعمل على التفريق بين خصمك الرئيسي وحلفائه، اجعلهم يشعرون بالشك تجاهه، حتى ينفصلوا عنه)(8)، وقد تلجأ الدول المستهدفة الى تقديم بعض الحوافز او الوسائل الاكراهية لإجبار بعض اعضاء التحالف المعادي من الانسحاب او تغيير موقفه المعادي .

خامسا: تعزيز الدفاعات الامنية للدولة

   استخدمت في حروب الجيل الخامس وبشكل مؤثر التطبيقات التكنولوجية، والفضاء السيبراني، والأسلحة الحديثة مثل طائرات الدرونز ومن مميزات هذه التقنيات سهولة توضيفها وامتلاكها سواء من الدول او الفاعلين من غير الدول وكذلك من مميزاتها هو مجهولية هوية الفاعل والمنفذ وهذا يتطلب التعامل معها بمنظومات امنية وهياكل دفاعية جديدة تتناسب مع نوع التهديد .

   كما ان تأمين مؤسسات الدولة من الهجمات السيبرانية يتطلب انشاء مؤسسات ذات مواصفات وقدرات خاصة للحد من التهديد المحتمل عبر الدفاع عن الشبكات الالكترونية وتحصينها او تكوين منظومة الردع السيبراني، ومنع الاستثمارات الاجنبية في البنية التحتية للاتصالات (ان ممارسة التغيير للمجال العام السيبراني باتت مرهونة بالعديد من العوامل منها موارد الدولة ومدى تقدمها التكنولوجي، وبالرغم من ذلك فان الدول استخدمت المجال السيبراني في صراعاتها السياسية)(9).

سادسا: مواجهة الفواعل غير المسلحة من الدول

   منذ عقود برزت في الساحة الدولية فواعل جديدة من غير الدول رغم اختلافها في النهج والفكر والأسلوب الا انها اصبحت جزء من واقع العلاقات الدولية وتلعب دورا في الصراعات الدولية وقد عرفتها "مبادرة جنيف" بأنها جماعات منظمة ذات بنية اساسية للقيادة تعمل خارج سيطرة الدولة وتستخدم القوة لتحقيق اهدافها)(10).

ولمواجهة هذه الفواعل وتأثيرها على استقرار الدولة لابد من دراسة دوافع وأسباب نشوء هذه الفواعل وإيجاد السبل لمعالجتها وإيجاد التشريعات والآليات التي تعزز انسجامها مع مكونات المجتمع واندماجها مع كيان الدولة سواء كانت الحلول سياسية او اقتصادية او ثقافية لتجنب استغلالها من اطراف خارجية من الدول لإيجاد حالة من التفتيت المجتمعي والانقسام المكوناتي الذي يعد احد وسائل حروب الجيل الخامس.

الخلاصة:

إن الحروب ظاهرة انسانية متغيرة في الأداء والأدوات ولكنها واحدة في الغاية والهدف، وهو اخضاع الخصوم لارادة الدولة المحاربة، وقد أصبحت الحروب الحديثة  اقل استخدام للقوة الصلبة لكنها اشمل وأكثر اتساعا، فقد تعددت أدواتها مع التطور التقني وخاصة في مجال المعلومات وتوسع نطاق ميدانها لتشمل ميادين الثقافة والاقتصاد والصناعة والزراعة وحتى الحياة المدنية.

ويعيش العراق اليوم حروب الجيل الخامس بكل اشكالها وملامحها وبدون استخدام الآلة العسكرية للوصول الى حالة الرضوخ للارادة الخارجية والانصياع لأهدافها دون مواجهة قتالية وهذا هو نظام حروب الجيل الخامس الذي يسعى الى احتلال العقول وليس الارض وبدون استخدام الأسلحة التقليدية

 

 

قائمة المصادر والمراجع :-

1. القاموس العسكري : موقع الموسوعة العالمية الحرة ويكيبيديا : www.wikipedia.org

2. أ. أبادوراي استخدام القوة في العلاقات الدولية , ترجمة : عبد الله حسين , وكالة الصحافة العربية (ناشرون) , طبعة 2020 , جمهورية مصر العربية , 2020 , ص18 .

3. روبرت غرين : 133 أستراتيجية للحرب , ترجمة : سامر هواش , شركة مكتبة العبيكان , ط1 , المملكة العربية السعودية , 2009 , ص50 .

4. مجدي كامل : حروب الجيل الرابع – الحرب بالوكالة - , دار الكتاب العربي . ط1 , دمشق , 2016 , ص17-18 .

5. عاطف شريف : من الجيل الاول ... للجيل الخامس , العدو واحد ولكن الحروب انواع , مقال منشور على الموقع الالكتروني – بلدنا اليوم - : https:/www.baldanalyoum.com

6. علي زياد العلي : الصراع والامن الجيوسبراني في السياسة الدولية – دراسة في استراتيجيات الاشتباك الرقمي , دار امجد للنشر والتوزيع , ط1 , عمان , 2019, ص69 .

7. مجدي كامل : حروب الجيل الرابع – الحرب بالوكالة , مصدر سابق , ص16.

8. طه عبد الرؤوف سعد : حروب الجيل الرابع , دار الكتاب العربي , ط1 , دمشق , 2016 , ص16 .

9. زهراء حسن كاظم : اللاتماثل في الاداء الاستراتيجي الامريكي ومكافحة الارهاب نموذجا , رسالة ماجستير مقدمة الى كلية العلوم السياسية , جامعة النهرين , بغداد , 2012 , ص8 .

10. محمود عبد الحليم : تعرض طلبة الجامعات لاليات حروب الجيل الرابع بمواقع القنوات الفضائية , دراسة منشورة في مجلة البحوث الاعلامية , كلية الاعلام – جامعة الازهر , العدد: 53 , الجزء الثاني , 2020 , وعلى الرابط: https://jsb.jouranals.ekb.eg

11. د. محمد عمارة تقي : الاعلام وحروب الجيل الخامس , مقالة منشورة في صحيفة الرأي العام الالكترونية على الرابط: https://www.raialyum.com من 5/12/2021 م .

12. محمود محمد علي : حروب الجيل الخامس وخصخصة العنف , مؤسسة المثقف العربي , ط1 , سيدني , استراليا , ص14.

13. أميل خوري : صراعات الجيل الخامس , شركة المطبوعات للتوزيع والنشر , ط3 , بيروت , 2019 , ص116-233 .

14. شادي عبد الوهاب : حروب الجيل الخامس – اساليب التفجير من الداخل على الساحة الدولية , دار العربي للنشر والتوزيع , ط1 , القاهرة , 2019

15.شادي عبد الوهاب: تفاعلات صراعية-استراتيجيات ادارة التهديدات في ظل تحولات بنية الامن الوطني، المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة،ابو ظبي، ط1 ،  2022،ص 117

16. شادي عبد الوهاب : حروب الجيل الخامس – اساليب التفجير من الداخل على الساحة الدولية , مصدر سبق ذكره , ص67 .

17. محمود محمد علي : حروب الجيل الخامس وخصخصة العنف , مصدر سبق ذكره, ص24 .

18. أميل خوري : صراعات الجيل الخامس , شركة المطبوعات للنشر والتوزيع , ط3 , بيروت , 2019 , ص240 .

19. الخبر منشور في موقع الجزيرة الالكتروني في 19/9/2020 وعلى الرابط الالكتروني : https://www. Aljazeera.net

20. الدكتور محرز الحسيني : ظاهرة الصراع الدولي – دراسة في الفمهوم والاشكال واساليب الادارة , بحق مقدم الى قسم العلوم السياسية , كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية , جمهورية مصر العربية , 2018 .

21. د. محمود محمد علي : حروب الجيل الخامس وخصخصة العنف , مصدر سبق ذكره , ص206 .

22. المصدر نفسه , ص208 .

23. المصدر نفسه , ص210 .

24. خالد جواد سلمان : تاثير سياسات الدول على مستقبل الموارد المائية في العراق , دراسة منشورة في مجلة كلية التربية الاساسية للعلوم التربوية والانسانية , جامعة بابل , العدد : 36 , 2017 .

25. شادي عبد الوهاب منصور : حروب الجيل الخامس – اساليب التفجير من الداخل , مصدر سبق ذكره , ص129 .

26. د. محمود محمد علي : حروب الجيل الخامس وخصخصة العنف , مصدر سبق ذكره , ص219 .

27. التلوث البيئي – موت بطئ يهدد حياة العراقيين , مقالة منشورة على موقع D.W الالكتروني في 12/8/2011 وعلى الرابط : https://www.dw.com

28. أ.د. عبد السلام الطائي : حرب المخدرات في العراق , مقال منشور في موقع كتابات الالكتروني في مارس 2021 المصادر والمراجع :-

29. أ.د. محمد محمود العجلوني : أثر الحكم الرشيد على النخبة الاقتصادية المستدامة في الدول العربية , بحث منشور في المجلة العربية للادارة , المجلد :39 , العدد : 4 , كانون الاول 2019 , ص5 .

30.د. محمود محمد علي : نعرض طلبة الجامعات لاليات حروب الجيل الرابع بمواقع القنوات الاخبارية , دراسة منشورة في مجلة البحوث الاعلامية , كلية الاعلام جامعة الازهر , العدد : 53 , الجزء الثاني , يناير 2020 , على الرابط : https://jsb.journals.ekb.ey

31.شادي عبد الوهاب : حروب الجيل الخامس – اساليب التفجير من الداخل على الساحة الدولية , مصدر سبق ذكره , ص156 .

32.شادي عبد الوهاب : تفاعلات صراعية – استراتيجيات ادارة التهديدات في ظل تحولات بنية الامن الوطني , مصدر سبق ذكره،, ص117 .

33.عبد الرزاق الدليمي : اشكاليات الاخبار المفبركة وتاثيرها على تشكيل الرأي العام , دراسة منشورة في 22 يوليو عام 2018 على موقع الجزيرة الالكتروني وعلى الرابط التالي : https://shdies.aljazeera.net

34.د. نور تركي : التحالفات الدولية – استراتيجيات متعددة لمواجهة التهديدات الاقليمية , دراسة منشورة في 9 مايو 2021 على موقع المركز الاوربي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات وعلى الرابط الالكتروني : https://www.europarabct.com

35.شادي عبد الوهاب منصور : تفاعلات صراعية , مصدر سابق , ص146 .

36.سون ترو : فن الحرب – من روائع الفكر العسكري الخالد , ترجمة : اسامة علاء , الغد المشرق للنشر والتوزيع , القاهرة , 2019 , ض146 .

37.د. ابتسام علي حسي : فرص وقيود الاطراف المتنازعة على المجال السيبراني, مقالة منشورة في مجلة السياسة الدولية , العدد:208 , ابريل 2017 , المجلد :56 , ص12 .

38.شهرزاد ادمام : الفواعل العنيفة من غير الدول : دراسة في الاطر المفاهيمية النظرية , دراسة منشورة في مجلة سياسات عربية , العدد : 8 , نيسان 2014 , ص72 , على الرابط الالكتروني : https://siyasatarabiya.dohainstitute.org/