العملة السيادية... من البترودولار الى البترودينار ... حلول خارج الصندوق في مواجهة الازمة المالية

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2020-12-15 15:37:35

د. رائد صاحب سعدون

م. مراد عبد الصمد هادي

اثار اعتزام شركة فيسبوك إطلاق عملتها الرقمية "ليبرا" الكثير من ردود الأفعال المتباينة حيث لاقت الخطة معارضة شديدة من قبل وزراء المالية لمجموعة السبع بالإضافة الى مسؤولي الهيئات التنظيمية والبنوك المركزية والحكومات، متذرعين بان مثل هكذا عملة يجب ان تحترم القواعد التنظيمية المرتبطة بإصدار العملات. لكن ما يثير الانتباه هو وجود شعور أعمق بالقلق من مجرد احترام القواعد التنظيمية، هذا الشعور يتمثل بمخاوف الدول من تزايد نفوذ شركات تكنولوجيا المعلومات وغيرها في مجالات كانت الى حد بعيد حكرا على الحكومات، مثل عملية اصدار العملة.

وتبرز هذه المخاوف بشكل واضح في تصريح وزير المالية الفرنسي "برونو لومير" حيث صرح قائلا [1]:

"لا يمكننا ان نقبل بأي عملات متداولة لها نفس قوة ودور العملات السيادية"

هنا يتبادر الى الاذهان سؤال مهم وهو: ماهي العملات السيادية؟ وهل توجد عملات غير سيادية؟

قد يبدو السؤال ساذجا في بادئ الامر، كون الجواب المتوقع هو بأن العملات السيادية هي تلك العملات التي تصدرها الدولة متمثلة بالبنك المركزي الخاص بها.

وهذا بالتالي يؤدي الى سؤال اخر مهم وقد يتبادر الى اذهان الكثيرين وهو: إذا كان اصدار العملة هو اختصاص حصري للدولة، فلماذا لا تقوم الدول بإصدار كميات العملة الكافية لها بحيث لا تتعرض الى ازمة نقص في السيولة المالية؟

الإجابة الابسط على هذا السؤال تتمثل في كلمة واحدة: التضخم.

الا ان الإجابة الاعمق تحتاج الى مراجعة بسيطة لتاريخ نشأة العملة، فنحن حاليا في المرحلة ما بين الجيلين الثالث والرابع من العملات، فاذا افترضنا بان نظام المقايضة كان يمثل الجيل الأول، ونظام العملات المعدنية يمثل الجيل الثاني، فان العملات الورقية تمثل الجيل الثالث، في حين ان العملات الافتراضية هي الجيل الرابع.

ما يهمنا من الموضوع هو نظام العملات الورقية والتي يعتمد عليها النظام المالي العالمي بشكل كبير, حيث بدأ هذا النظام بشكله الحديث بعد قيام البنك المركزي الإنكليزي في عام 1821 بتبني نظام عملات ورقية تتعهد فيه الحكومة بدفع قيمته بالذهب عند الطلب [2] (اشبه ما يكون بالصكوك حاليا) وسرعان ما تبنت الدول مثل هكذا نظام.

بقي الذهب هو الغطاء الذي يعطي للعملة الورقية قيمتها، وتم تأكيد ذلك مجددا في مؤتمر بريتون وودز [3] الذي عقد في عام 1944 في الولايات المتحدة قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية وذلك لأجل وضع إطار لنظام مالي عالمي جديد، إذ يقوم هذا النظام النقدي الجديد على أساس "قاعدة الصرف بالدولار الذهبي"، وبذلك تحول الدولار الأميركي من عملة محلية إلى عملة احتياط دولية. وينبغي على كل دولة شاركت في المؤتمر أن تحدد قيمة تبادل عملتها الوطنية بالنسبة إلى الدولار على أساس الوزن والعيار النافذين في أول يونيو/حزيران 1944, وبهذا تحدد كل دولة قيمة عملتها المحلية بالدولار وتتحدد قيمة الدولار بالذهب وبسعر صرف ثابت. وقد استمر العمل بهذا النظام حتى عام 1971 عندما أعلن الرئيس الأميركي نيكسون ايقاف قابلية تبديل الدولار إلى ذهب وهو أهم أركان نظام بريتون وودز بما عرف بصدمة نيكسون [4]   وأدى بعد ذلك الى انهيار نظام بريتون وودز.

بعد انهيار نظام بريتون وودز إثر صدمة نيكسون، تحولت العملة من عملة مدعومة بأصول ثابتة (representative Currency) الى مجرد مستند ورقي قانوني مدعوم من الدولة بدون أي غطاء مادي ملموس (Fiat Currency). ومن اجل ان تحافظ الولايات المتحدة على مكانة الدولار كعملة احتياط دولية، قامت بعقد اتفاقية مع المملكة العربية السعودية في عام 1974 باعتبارها أكبر منتج للنفط في العالم تقوم من خلاله السعودية بتسعير نفطها بالدولار وهو ما مهد الأرضية لنشأة مصطلح البترودولار [5].  

أدت هذه الاحداث الى نشوء نظام جديد للعملة يعتمد على قوة ومكانة الدولة بالدرجة الأساس, فعملة الدولة هي تمثيل لمكانة الدولة ورصانة نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي, وأدى هذا الى بروز مجموعة من العملات الوطنية المقبولة عالميا مثل الدولار الأمريكي والجنيه الإسترليني والين الياباني واليورو, حيث نلاحظ على سبيل المثال وجود دول ذات نظام اقتصادي شبه منهار مثل اليونان, الا ان عملتها تتميز بمكانة عالمية جيدة , ليس بسبب قوة اقتصاد اليونان , ولكن بسبب كون العملة المستخدمة مدعومة من قبل قوى اقتصادية وسياسية ذات تأثير عالمي , هي على راس دول الاتحاد الأوربي مثل المانيا وفرنسا.

هنا نستطيع القول ان مثل هذه الدول تستطيع اصدار كميات من العملة تتناسب مع حجم اقتصاداتها، وعليه فهي تمتلك السيادة على عملتها, او تمتلك "عملة سيادية" مقبولة عالميا., في حين ان الكثير من دول العالم ومن بينها الدول المنتجة والمصدرة للنفط لا تمتلك مثل هذه الخاصية أو الامتياز وإن كانت منتجة للمادة الأكثر طلبا عالميا وهي النفط، كونها ربطت عملتها بنظام "البترودولار", فهي تستطيع اصدار مقدار معين من العملة يتناسب مع حجم احتياطاتها من الدولار بالدرجة الأساس ,وأي اصدار لكميات من العملة لا توازي حجم الاحتياطي يؤدي الى التضخم وهبوط قيمة العملة، عندها ترتفع الأسعار المحلية بشكل أسرع من ارتفاع الأسعار العالمية, وفي هذه الحالة تكبح الصادرات وتسهل الواردات ما يؤدي في نهاية الامر الى نضوب احتياطات الدولة , وتتحول الدولة الى دولة مدينة.

من اجل ذلك ينبغي على الدول ان تلجأ الى نظام مالي واقتصادي يحفظ لها سيادتها على عملتها , ويتمثل باعتمادها على مواردها الأساسية لإيجاد عملة سيادية تمثل مكانة الدولة والقيمة الحقيقية لما تملكه من ثروات.

إن الهدف الأساسي من وجود نظام سيادي للعملة, هو تمكين الدولة من الحصول على السيولة المالية اللازمة للإيفاء بالتزاماتها المادية بمختلف اشكالها, وضخ السيولة المادية اللازمة لديمومة عمل مؤسسات الدولة, من خلال الاستفادة من الموارد الاقتصادية الطبيعية الرئيسة وتحويلها الى سيولة نقدية (Resource monetization)، بحيث لا تكون هذه العملة محكومة بمبدأ البترودولار وانما بمقدار الموارد المتوفرة للدولة.

الملاحظ في حالة العراق بان المشكلة الاقتصادية في الأساس تراكمية، ويرجع أساسها بصورة مباشرة الى الاعتماد على مصدر رئيس واحد لواردات الدولة، الا وهو النفط، وهو بدوره مرتبط بعدة عوامل تسبب تذبذبا بأسعار النفط، حيث نلاحظ تخبطا واضحا في جميع مفاصل الدولة عند أي هبوط لأسعار النفط, فالعراق هو بلد غني عند صعود أسعار النفط وفقير عند هبوط أسعاره, والسبب يكمن في غياب او تلكؤ المباشرة بالتحول من الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد المتنوع والذي يعني تفعيل دور القطاعات الاقتصادية الأخرى كالزراعة والصناعة ناهيك عن القطاعات الخدمية والسياحية وغيرها كالأنشطة الرياضية , بالإضافة الى غياب التخطيط الإستراتيجي وعدم وجود رؤية واضحة لشكل الاقتصاد العراقي.  

في ضوء هذه المشاكل الاقتصادية، وفي خضم الازمة الحالية، يصبح لزاما على الدولة القيام بحلول جذرية شاملة لإصلاح النظام المالي والاقتصادي، ووضع خطط شاملة لبناء الاقتصاد بالاعتماد على حلول ابتكارية خارج الحلول التقليدية التي يتم تداولها غالبا، على ان تشمل هذه الحلول خطط سريعة التنفيذ وذات بعد إستراتيجي، وأخرى طويلة الأمد لأغراض الاستدامة الاقتصادية.

واحدة من هذه الحلول هو القيام بإصدار عملة محلية التداول (كخطوة أولى) موازية للدينار العراقي وغير مرتبطة بالدولار، يكون غطاؤها الموارد الطبيعية للدولة (النفط بالدرجة الأساس)، والغاية هي توفير غطاء لسيولة مالية محلية (تحويل النفط الى عملة) واستخدام هذه السيولة محليا, أي إيجاد عملة "مؤقتة" جديدة للتبادل الداخلي بغطاء نفطي، " complementary currency".

بإصدار مثل هكذا عملة يتحول البلد الى نظام العملة المزدوج , وهو نظام مالي تم استخدامه سابقا وحاليا في كثير من دول العالم باليات و أغراض مختلفة ومن الأمثلة الحالية لبلدان تستخدم هذا النظام نذكر منها: (المملكة المتحدة – بريستول باوند، المانيا- شيمغوير، الولايات المتحدة- بيركشير, كندا – تورنتو دولار , ماليزيا – كيلانتاسي دينار.... وغيرها كثير).

في النظام المزدوج او الثنائي للعملة يصبح للدولة عملتان: الأولى/ هي العملة التقليدية باستخداماتها المعروفة، وهي ناتجة بصورة مباشرة من مبيعات النفط ومرتبطة بمبدأ البترودولار, والثانية/ (العملة الموازية) تكون محلية الاستخدام ولأغراض محددة تساهم في إنعاش الاقتصاد المحلي , وتصبح الوسيلة الرئيسة للتعاملات بين المواطن والحكومة, حيث تتركز الفكرة في الأساس باستغلال الخزين الاحتياطي النفطي ليكون غطاء للعملة الموازية (بدون استخراج) وترتبط بمبدأ البترودينار.

ان وجود مثل هكذا عملة يعود بفوائد اقتصادية متعددة، منها توفير السيولة المالية للتعاملات المحلية، وبالتالي تؤدي الى توفير فائض من العملة الأجنبية (الدولار بالدرجة الأساس) تستفاد منه الدولة في الإيفاء بالتزاماتها الخارجية، كما تؤدي الى الحد من خروج العملة الأجنبية من البلد، وتقليل الاعتماد على الاقتراض الخارجي، وتنشيط الاقتصاد المحلي والذي يؤدي الى نتائج إيجابية بما يسمى (Local Multiplier effect). وغيرها من الفوائد. وتكون للعملة الموازية الميزات التالية:

 

  1. ليس لها سعر صرف مقابل الدولار.
  2. يكون لها سعر صرف ثابت مقابل الدينار العراقي.
  3. يكون لها قيمة ثابتة مقابل برميل النفط.
  4. يجوز امتلاكها من قبل المواطنين والمؤسسات الحكومية فقط (كخطوة أولى).
  5. يمكن التوسع بها لتشمل الاعمال الصغيرة وبعض اعمال الشركات الكبيرة.
  6. توفير مردود اقتصادي ومالي جديد وباليات معينة عند عودة أسعار النفط الى مستوياتها الطبيعية.

 

كما تكون استخداماتها محدودة بمجالات معينه نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

 

  1. تستخدم من قبل الدولة لسداد نسبة من أجور ورواتب الموظفين الحكوميين.
  2. تستخدم من قبل الدولة لصرف اعانات البطالة.
  3. تستخدم من قبل المواطنين لسداد المستحقات الحكومية (الرسوم والقروض واجور الخدمات وغيرها).
  4. تستخدم من قبل المواطنين للتسوق الحكومي ولشراء المنتجات الوطنية (مشتقات النفط والمواد الغذائية "المجهزة من قبل الدولة" كمفردات البطاقة التموينية وغيرها)
  5. لا تستخدم في مزاد العملة.
  6. تستخدم لشراء المنتجات الوطنية لوزارات الدولة كوزارات الزراعة والصناعة (لا تعتبر المواد المجهزة من الأسواق المحلية وذات المنشأ الأجنبي مواد مصنعة محليا).
  7. تستخدم من قبل أصحاب المولدات الاهلية لشراء الوقود من الدولة على ان يستطيع المواطن تسديد أجور المولدات الاهلية بهذه العملة.

 

ان إصدار النقد هو أحد الاختصاصات التي تعبر عن سيادة الدولة، وان الحفاظ على سيادة الدولة ومكانتها يتيح لها اتخاذ الإجراءات الضرورية للحفاظ على مصالح البلد والمواطنين والخروج من حالة الفوضى المستمرة عند حدوث أي كارثة. كما ينبغي على الحكومة ان لا تحمل المواطن وزر سوء إدارة موارد الدولة وعدم اللجوء الى الاستقطاعات المالية من رواتب الموظفين الحكوميين عند حصول الازمات في ظل نظام اقتصادي ريعي يمثل عبئا جديدا على كاهل المواطن حاليا ومستقبلا، حيث ان معظم حركة السوق تتمحور حول المبالغ المالية التي ينفقها الموظف كون الموظفين يمثلون شريحة كبيرة ان لم تكن الأكبر في مثل هكذا نظام اقتصادي وهذا بالتالي يؤدي الى مساوئ كبيرة أهمها الفساد المالي والإداري إذ قد يضطر الموظف الى اللجوء الى طرق أخرى لكسب المال وهذا بدوره يؤدي الى انتشار الفساد بنسب أكبر تضاف الى النسب الموجودة أصلا. وعليه فان على الدولة التفكير بمثل هكذا حلول تمكنها من فرض سيادتها على اصدار عملتها بشكل يتناسب مع حجم الموارد الحقيقة للبلد وبعيدا عن المحددات المفروضة على اصدار العملة والتي لا تعكس الحجم الحقيقي لقدرات البلد.

 

 

المراجع

[1]  Euronews مع رويترز   18/07/2019

[2] EEE Spectrum (Volume: 49 , Issue: 6 , June 2012 A Brief History of Money James Surowiecki]

[3] Creation of the Bretton Woods System, 2013, https://www.federalreservehistory.org/essays/bretton_woods_created

[4] Nixon Ends Convertibility of US Dollars to Gold and Announces Wage/Price Controls

August 1971, https://www.federalreservehistory.org/essays/gold_convertibility_ends

[5] What Is The Petrodollar, https://www.fxcm.com/markets/insights/what-is-the-petrodollar/