حرب الاتهامات: كورونا في ميزان المؤامرة

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2020-05-04 13:47:30

 

م.د حسن سعد عبد الحميد  

مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية \ القسم السياسي

2020م

 مقدمة  

 منذ أن انتشر فايروس كورونا في شتى دول العالم كاسراً ومحطماً لكل القيود والحدود والتوقعات، انبرى لنا بعض المسؤولين والصحف ووسائل الإعلام المختلفة بالترويج وبوتيرة متصاعدة متسارعة لنظريات المؤامرة حول الفايروس، معتمدين على معلومات وسيناريوهات متنوعة، مصاغة بعناية وكأنها الأقرب للحقيقة والواقع.

فالثقافة القانونية وميزان القضاء والعرف الإنساني يقول أن من يوجه الاتهمات عليه أن يقدم الاثباتات والبراهين غير القابلة للتشكيك والتأويل، فهل تحقق هذا بالنسبة لمنظري المؤامرة حول فايروس كورونا.

فهل من الدقة القول أن فايروس كورونا ليس طبيعياً؟

هل تدخلت الصين فعلا في تصنيعه لغايات اقتصادية وسياسية؟

هل يمتلك مروجي هذه النظريات الأدلة الدامغة على فرضياتهم؟

هل انتشار الفايروس خارج الصين كان مدبراً؟

هل تسرب الفيروس فعلا من معهد ووهان لابحاث الفيروسات؟

هل على الصين البدء بتحرير الشيكات للدول الموبوءة بالفيروس كتعويضات؟

هل حسم الامر بالمؤامرة كسلاح وحيد لمواجهة اخفاق التصدي لكورونا؟ أم أن للعلم والمنطق رأي أخر؟

بذور المؤامرة

 بدأت قصة مؤامرة كورونا من الصين وتحديداً على لسان المتحدث باسم الخارجية الصينية (Geng Shuang)  ، الذي اتهم الولايات المتحدة الامريكية بمسؤوليتها على نشر فايروس كورونا في ووهان، وهذا الاتهام كان مبنياً على معلومتين: الأولى\ استناداً على جلسة استماع خاصة في الولايات المتحدة للعالم الامريكي ( روبرت ليدفيلد) ، وهو عالم فيروسات امريكي ويشغل منصب المدير العام لـ (CDC) ، وهي هيئة حكومية امريكية وظيفتها الوقاية من الامراض.

تم توجيه الاسئلة للعالم حول وجود أكثر من (20) ألف امريكي توفوا العام الماضي جراء الانفلونزا، فهل الانفلونزا العادية هي المسؤولة؟ أم أنها هي ذاتها فايروس كورونا؟

اجابة العالم هي من ساعدت الصين لتوجيه الاتهام لواشنطن، كون أن اجاباته كانت غامضة ومردداً عبارات (هذا الامر وارد، لا أعلم، ربما حدث ذلك ببعض الحالات)، وفسر هذا على أنه إخفاء متعمد للمعلومات.

ثانياً: هذا التوجس الصيني سهّل من مهمة الربط بين انتشار الوباء وبين تواجد عناصر الجيش الامريكي في ووهان في اكتوبر 2019م، للمشاركة في فعاليات عسكرية دولية هناك، وهذا الامر لم تسنده الصين إلى أدلة علمية أو حقيقية، واصبح الاتهام طي النسيان بعد مدة، بعد أن مهد الطريق لبروز فرضيات مؤامرة جديدة وبسيناريوهات مختلفة، قمنا برصدها وتتبعها وتحليل مدى مصداقيتها.

 مسلسل المؤامرات

  في الحقيقة قدم الاتهام الصيني للولايات المتحدة فرصة لتوسع وظهور حلقات عدة من الاتهامات وبسيناريوهات مختلفة، إلاَ أن المشترك في جميعها أن الصين هي من افتعلت الفايروس عمداً أو عن غير عمد، وهذه السيناريوهات هي:

1- أول اتهام امريكي للصين كان قد ورد في صحيفة واشنطن تايمز التي اتهمت الصين بتصنيع الفايروس معملياً للاغراض العسكرية، وأن بكين تلقت المساعدة من ضابط اسرائيلي يدعى (دان شوهان) بهذا الصدد، والغريب أن الصحيفة اشارت لعدم وجود دليل على كلامها! ومع هذا رددت على لسان  الكثيرين كانها معلومة حقيقية.

2- سلطت بعض وسائل الإعلام الغربية الضوء على فرضية أن عناصر من المخابرات الصينية سرقوا عينات من فايروس كورونا من كندا ونشروها في العالم لاحقاً، وذلك استناداً لمعلومة وصلت بوجود عالمين صينيين عملوا في مختبرات بحثية طبية في كندا، لكن هيئة الصحة الكندية نشرت خبر تكذيب عن ذلك، وأن المقصودين هما طالبان صينيان أكملا الدراسة في معهد كندي وعادا للصين لا غير.

3- نظرية المؤامرة الكبرى بهذا المجال كانت حسب رأي بعض الساسة والعلماء أن سبب انتشار وباء كورونا معهد الابحاث الطبي الفيروسي في ووهان، وليس سوق الحيوانات في ذات المدينة.

 إن اصحاب تلك النظرية يعتقدون أن هناك تجارب اجريت داخل المختبر المقصود، وبسبب قلة الاهتمام أو الاهمال استطاع فايروس كورونا التسرب خارج المختبر وضرب الصين ومن ثم بقية الدول، بهدف شن حرب بيولوجية.

هذا الاتهام لم يكن مسنوداً بأدلة علمية أو ثبوتية بقدر ما كانت تكهنات، ورغبة امريكية للقول بأن البحث العلمي الصيني متراجع، رغم أن الصين عام 2019م تجاوزت الولايات المتحدة الامريكية واحتلت المركز الأول عالمياً بعدد البحوث والاختراعات العلمية، ومصدر غالبية تلك البحوث والاختراعات مصدرها مدينة ووهان، فهل الاتهام كان مقصوداً إذن؟

4- حجب المعلومات وتضليل الرأي العام كان أشهر نظريات المؤامرة التي قدمتها الادارة الامريكية وبعض شركائها الاوربيين، وذلك بالقول وعلى لسان الرئيس الامريكي ترامب أن الصين تتعمد اخفاء المعلومات على فايروسها الصيني، وهي تآمرت في الكشف المبكر عنها للمجتمع الدولي.

 في الحقيقة هذا الاتهام فيه الكثير من الدقة، فتتبع الاجراءات الصينية منذ لحظة الوباء تؤكد أنه في 30 كانون الاول/ ديسمبر ارسلت الصين رسالة للادارة الامريكية تبلغهم بحدوث الوباء، وفي يوم 3 يناير اتصل المسؤول الصيني المسؤول عن الوباء بنظيره الامريكي واحاطه بآخر المعلومات، وأن الوباء قد خرج عن السيطرة، وخلال تلك المدة وما بعدها عقدت الصين جلسات يومية مع منظمة الصحة العالمية حول الوباء وبتواجد الامريكيين.

 ولعل السؤال الذي يطرح نفسه لماذا لم تتخذ الادارة الامريكية أي اجراءات بعد التحذير الصيني حتى يوم 11/4 / 2020م، واعلان الرئيس الامريكي بأن كارثة قد حلت بالولايات المتحدة بسبب كورونا، أي أن الادارة الامريكية على مدى اربعة اشهر من التحذير الصيني لم تتخذ اجراء جدي لحماية مواطنيها.

  هذا التقاعس الامريكي سببه عدم رغبة ترامب باتخاذ قرارات تؤثر على الاقتصاد وعلى ارباح الشركات الامريكية، الربح أولاً والإنسان ثانياً، لا بل أن ترامب سخر في البداية من الوباء واصفاً أياه بالانفلونزا العادية، وزاد الامر سوء رفض حكّام بعض الولايات الامريكية القيام بالحجر الوقائي والسماح لمواطنيها بالاحتفال وبالالاف بعيد الربيع في شواطئ فلوريدا وميامي، الأمر الذي ساعد في تفشي الوباء بسرعة كبيرة، لا بل أن احد اعضاء هيئة الاركان في محاربة كورونا وهو طبيب قد ابدى انزعاجه لتاخر ترامب غير المفهوم في اتخاذ الخطوات الضرورية للوقاية من كورونا رغم التحذيرات الداخلية والخارجية، الامر الذي دفع ترامب الى طرده عبر تغريدة بتويتر.

إن الرئيس الامريكي دونالد ترامب تجاهل حسب صحيفة الواشنطن بوست التقارير الصادرة من الاستخبارات الامريكية حول امكانية تحول الوباء الى جائحة في الشهرين الاولين للسنة الجديدة، وتجاهل الرسائل الصينية حول التحذيرات، واكتفى بالقول أن كل شيء على ما يرام، فهناك شخص واحد مصاب وكل شيء تحت السيطرة.

  وعلى ما يبدو إن الاخفاق الامريكي بالتعامل مع الوباء، ورعونة الرئيس الامريكي في توظيف الوباء كملف انتخابي حث الادارة الامريكية على البحث عن كبش فداء، وكان في البدء اوروبا وعدم جديتهم بالتعامل مع الوباء، ومن ثم اتهام ادارة اوباما السابقة بالتقصير في الملف الصحي، ومن ثم لتستقر الحال باتهام الصين، وانحياز منظمة الصحة العالمية لصالحها.

5- انتشرت وبقوة اشاعة في الولايات المتحدة واوروبا على حد سواء مفادها ان تقنية الجيل الخامس من نظام الانترنت والاتصالات الصيني هو المسؤول عن انتشار وفيات كورونا في اوروبا، فهذا الجيل حسب مبتكري تلك المؤامرة ينتج عنه امواج كهرومغناطيسية تسبب للمواطنين اعراض تشبه اعراض الانفلونزا، وكان اول من اطلق تلك الاشاعة موقع (كونيكتف ايفنتس) نهاية كانون الثاني الماضي، ورددت لاحقا على لسان الكثيرين، في حين أن لغة العلم والمنطق تقول أن فايروس كورونا ينتقل عن طريق التلامس والاقتراب الاجتماعي، والرذاذ المتطاير من المصابين، وأن الاشعة الكهرومغناطيسية لا تسبب انتقال العدوى من انسان لاخر، وهو التصريح الرسمي الذي قدمه المتحدث باسم المكتب الفدرالي للحماية من الاشعاع.

في الواقع أن سيناريوهات المؤامرة لم تتوقف عن ذلك، منها ما اتهم مؤسس مجموعة مايكروسوفت الامريكي (بيل غيتس) بالوقف وراء الوباء لكونه فقط انشغل خلال السنوات الماضية بالاعمال الخيرية في مجال الامراض واللقاحات، أو من خلال احاديثه السابقة عن خطورة الفيروسات والاستثمار بمجال اللقاحات بدلا من الاسلحة.

كما جرى ايضا اتهام الولايات المتحدة بكونها صنعت الفايروس ليتلائم مع الجينات الايرانية وتقتل مواطنيها، وهناك من اتهم الادارة الامريكية بتصنيعه في افغانستان وارساله للصين فيما بعد، وغيرها الكثير من نظريات المؤامرة التي تفتقد للحس العلمي وللادلة الدامغة.

 إن نظريات المؤامرة ليست بالجديدة على الساحة السياسية والدولية، فكلما تفشل نظرية في تحقيق هدفها تظهر بدلاً عنها نظريات اخرى وهكذا دواليك دون توقف، إذ تشهد تلك النظريات رواجاً في الغالب لدى الفئات محدودة الثقافة، أو الجاهلة، او تلك الفئات غير القادرة على التحليل المنطقي للاحداث، أو تنتشر لدى الفئات العاطفية التي تتأثر بجمالية الخطابات وبلاغة صياغة نصوص المؤامرات، او لكونها تتلائم مع قناعاتهم الايديولوجية وتوجهاتهم إزاء القضية المثارة لتحقيق اهداف خاصة.

فصناعة سيناريو للمؤامرة أمر ليس بالصعب، ولا يتطلب جهد عالي من الثقافة والمعرفة، بقدرة ما يتطلب القدرة على إعادة قراءة الاحداث بصورة تفسيرية ذاتية.

 ما نريد أن نوصله من رسالة أن العلم يقول أن الفيروس عندما ينتقل من الحيوان إلى الإنسان يموت بسرعة، إلا انه بعد كل 20 او 30 و 40 سنة أقل او اكثر، تتأقلم الفيروسات وتتطور بشكل يتلائم مع جسم الإنسان، وتاريخ الفايروسات والاوبئة حافل بذلك انطلاقاً من الفايروس الاسباني سنة (1918م)، مرورا باوبئة 1935م و 1968م، ووباء سارس عام 2001م، وفايروس ميرس في السعودية عام 2014م، ومن ثم فايروس كورونا، واغلب هذه الفيروسات هي من عائلة الفايروسات التاجية.

   إن العالم اليوم بأمس الحاجة إلى التضامن الإنساني في مواجة كورونا، وتقديم كل اشكال التعاون لصالح الجهود العلمية الطبية للخلاص من هذه الكارثة الإنسانية، فبدلاً من قضاء الوقت باختراع نظريات مؤامرة والترويج لها دون ادلة علمية حقيقية، كان من المفترض استثمار ذلك الوقت في الكثير من الفحص، الكثير من الحجر، الكثير من الوقاية، والكثير من دعم المرضى والمصابين وايجاد العلاج.

إن لغة العلم تقول أن الانسان بطبيعته يميل لطرح الاسئلة، كائن استفهامي بامتياز منذ ولادته، (لماذا) و(كيف) لا تفارقانه، ويطرحهما بإلحاح شديد ليفسر تعقيدات المواقف والحياة، ولا يهدأ له بال إلا عندما يجد اجابة ترضيه وتعيد له الاتزان الفكري والعقلي المضطرب جراء عدم معرفته باجوبة تساؤلاته.

وهكذا في سياق الحروب والنزاعات والاضطرابات والازمات المتعددة يلجأ الإنسان إلى طرح الاسئلة لتفسير ما يحصل من حوله من تعقيدات، ويطرح الكثير من التفسيرات والتناقضات لشيء لا يفهمه أو لا يجد لها أجابة مقنعة، فيستلهم ويسترجع نظرية المؤامرة لحل تلك المعضلة لتبديد القلق والشك العلمي لديه، ولا يمانع في اسنادها بمعلومات مضللة أو مفبركة وتقديمها كحقيقة لتساؤلاته وتصبح اكثر مصداقية وتقبل لديه، فعقل الانسان يميل تلقائياً إلى الاستقرار، لذا نجده في الكثير من الاحيان يميل وفي لحظات التوتر والقلق إلى تبني سيناريوهات واجوبة تضبط انفعالاته بغض النظر عما إذا كانت تلك التفسيرات والاجابات مقنعة وعلمية ومسندة بالادلة، فالإنسان يحتاج للمعرفة لتبديد القلق، وليس هنالك حسب رأي علماء النفس أفضل من فرضية المؤامرات لتفسير الظروف الحرجة والمبهمة ومنها قضية انتشار وباء كورونا.

 المطلوب اليوم هو نسف الاخبار المفبركة التي تستند عليها نظرية المؤامرة ازاء انتشار فايروس كورونا، والعمل على نشر المعرفة الصحيحة والحقيقية المسندة بادوات العلم، فميزان العدالة بين كفي العلم والمؤامرة يميل للأولى، وعلى اصحاب الفئة الثانية المراجعة الذاتية وتلقي دروسا في النقد الذاتي، وقضاء الوقت بدراسة كتب العلم وتاريخ فبركة المؤامرات وطرق تزييفها.