
إمكانيات بناء السلام في العراق
التصنيف: مقالات
تاريخ النشر: 2019-09-04 17:41:41
في محاولة بسيطة لاستعراض تاريخ العراق سنجد أن العراق في تاريخه الحديث لم يحظَ بنموذج للسلام يمكن المطالبة بالعودة اليه، ولكن يمكن أن نبحث في امكانية تحقيق هذا النموذج.
أن تحقيق السلام هو أمر وارد لكنه يتطلب سياسة وإدارة صحيحة، ففي بلد مثل العراق يُعد واحداً من أكثر البلدان تعقيداً والتباساً على المستوى السياسي والاقتصادي والاقليمي كيف يُمكن أن تتحقق عملية بناء السلام؟
نجد من الصعوبة التنبؤ بمتغيرات الخارطة السياسية في ظل الصراع الإقليمي والدولي! أظن أنه ليس من السهل الحديث عن انهاء العنف بأنواعه ومظاهره ما لم نُدرك الحدث في مساره التاريخي ولا يمكن إهمال التحولات التي يعيشها العالم في ظل ظهور موجة العولمة أو (الموجة الثالثة) بعبارة (ألفن توفلر)"كاتب ومفكر أمريكي وعالم في مجال دراسات المستقبل" المرتبطة بـ (ثورة الإنفوميديا) حيث تحول العالم إلى نظام الصورة، فصرنا في ظل وسائل التواصل الاجتماعي التي تنقل الحدث بالصوت والصورة أسرى لقيم هذه الثورة المعلوماتية، وهي بكل ما فيها من نفع إلا أنها تؤدي إلى الرضوخ لثقافة الصورة، وأصبح لها تأثيراً كبيراً في بناء السلام أو تهديده من خلال قدرتها الكبيرة على توجيه الرأي العالم العالمي والمحلي الى قضايا معينة من شأنها أسقاط أنظمة وإحلال غيرها كما حدث في ثورات الربيع العربي أو إحلال السلام من خلال عمليات الضغط التي تمارسعلى صناع ومتخذي القرارات، وبالتالي يمكن الإفادة من هذه الوسيلة في عملية بناء السلام في العراق.
من خلال الإطلاع على تجارب الدول التي مرت بحروب ونزاعات نجدها أثبتت ان القانون هو الذي يضع اليات التعايش ويُكوّن الاستقرار الاجتماعي، حيث من شأنه ان يحل النزاع ايً كان نوعه، ومانقصده بالقانون ليس الكلمات المكتوبة بل هو التطبيق والتنفيذ الذي من شأنه إيجاد صيغة اجتماعية وفكرية تسيطر على مواقع الاحتدام ومنابع العنف، هذا من جانب ومن جانب اخر، في ظل تعدد الطوائف والأديان نجد هنالك الخوف من الآخر، فعندما تعيش جنباً الى جنب مع افراد طائفة أخرى في داخل مجتمعات غير ديمقراطية ولم تترسخ فيها قيم المواطنة والمساواتية فينتابك الخوف فجأة من تنامي قوة هذه الطائفة التي تصبح بين عشية وضحاها القوة المسيطرة عليك تجد نفسك خائفاً على مصالحك أومعتقداتك وهذا الخوف له مبرراته وأسبابه التاريخية لتبدو هنا معادلة السلام شائكة ، لكن يمكن التعامل مع هذه القضية من بوابة الحوار الاجتماعي والسياسي المفضي الى قيم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص والقبول بالآخر اياً كان هذا الآخر (ديني، قومي، اثني...الخ.) ، حيث تخضع الأطراف المتنازعة عندها الى نوع خاص من التفكير ضمن دائرة الهوية المشتركة "الوطنية" التي تذوب داخلها باقي الهويات، وهذه المهمة أخذت تقوم بها منظمات المجتمع المدني( المحلية والدولية) من خلال النشاطات التي تعزز الحقوق والسلام والتعددية وبالتالي منع التطرف ونشر الوعي بأهمية التعايش السلمي .
وأخيراً لايمكن إغفال أهمية المحور الاقتصاد في خلق جو من التعايش المبني على مصالح العمل والإنتاج بدلاً من التفكر في مظاهر العنف كحل لأثبات الوجود، ففي بلد مثل العراق يمكن ان يخلق مصالح مشتركة بين السكان بمختلف انتماءاتهم، فيعزز التبادل التجاري فكرة قبول الاخر كشريك وليس كخصم، فتأهيل هذه المدن على نحو إقتصادي سيجمع افراد الطوائف المتنازعة على طاولة العمل، الانسان في اخر الامر يغلب مصلحته على ما سواها و هذه المصلحة الفردية تقود بالنهاية الى المصلة العامة بإعتبار الفردجزءاً من الجماعة .
تبدو هذه نقطة مفصلية يمكن ان تتم عبرها استغلال الطاقات التي تستخدمها منابع التطرف والتكفير كأدوات لها، فحالة الإستقرار الإقتصادية ستولد حالة استقرار فكرية من حيث التفكر في الحفاظ على الاستقرار، حيث يفضل الفرد مصالحه المادية علىان يدخل صراعاً من هذا النوع اذا كان يحظى بعمل واستقرارا اقتصادي و اجتماعي.
يرى جون بورتون (أحد العلماء البارزين في مجال تحليل الصراعات)أن أحد الأسباب الرئيسية في الصراعات والنزاعات والحروب هو الدافع القوي للبشر لتلبية احتياجاتهم غير المشبعة على مستوى الفرد والمجموعة والمجتمع.
وبناءً على ذلك حتى يتم تجنب حالات الصراع أو النزاع والمضي نحو تحقيق السلام، لابد من تلبية احتياجات الأطراف بصورة مرضية على كل المستويات.
سأنتهي بتعريف العنف الذي قدمه المؤسس الرئيسي لدراسات السلام والصراع (يوهان جالتونج)(عالم اجتماع نرويجي)، حيث عرّفه بأنه "إهانات يمكن تجنبها للحاجات الإنسانية الأساسية، وأكثر من ذلك للحياة كلها، مما يحط بمستوى إشباع هذه الحاجات تحت ماهو ممكن".
من هنا تنبع ضرورة الاهتمام بعملية بناء السلام كونها تمثل دعوة لتجنب الدواعي للجوء الى حالات العنف التي أدت الى فقدن الانسانلحاجاته الأساسية والفرص التي تمكنه من اشباعها.
أن بناء السلام عملية ممكنة التحقق سواء أ كانت في مرحلة النزاع أم في مرحلة ما بعد النزاع، ولأن العراق خارجٌ لتوهِ من حرب داعش لا بُدَ أن تكون المرحلة القادمة هي مرحلة بناء و تحقيق للاستقرار، لكن كل عملية البناء تحتاج لأُسس وهذه الأُسس على مستوى عملية بناء السلام هي في المقام الأول فهم موضوع الصراع ( سواء كان صراع متعلق بالسلطة أو صراع ناشئ عن القيم والمعتقدات الدينية أو صراع من أجل البقاء..الخ.)، كذلك المعرفة الدقيقةلأطراف الصراع و الاتجاهات والمشاعر التي لها تأثير على سلوك الأطراف المشتركة في الصراع لكي تكون قادرة على فهم حيثيات الصراع من كل جوانبه وبالنتيجة تكون قادرة على التعامل في مرحلة مابعد الصراع لوضع الاستراتيجية المناسبة، ومن الضروري أن يكون هنالك تفاعل ومشاركة من كافة الجهات الحكومية وغير الحكومية، على مستوى الأفراد والجماعات والمؤسسات لكي توضع الاستراتيجية موضع التطبيق.
أن الجهات المعنية عليها التركيز بشكل أساسي في مرحلة البناء على موضوع المناهج التعليمية، المنابر الدينية والأسرة، فهي المؤسسات الأكثر تأثيراً في قيم الأفراد ومعتقداتهم، ومنها تُنشر الكراهية وفكر إقصاء الآخر ومنها يُبعث السلام ايضاً.
أن العراق تاريخاً لم يخلُ من نموذج سلام بل على العكس، أن التاريخ العراقي القديم هو نموذج عظيم يمكن استحضاره في هذا السياق للتأكيد على أن العراقيين استطاعوا في فترة تاريخية ما على أن يصنعوا المجد، فالكتابة انبثقت من أرض الرافدين والقانون نحن أول من وضعه وطبقه، نحن من صنع الموسيقى والجمال وأول من احتضن التنوع والاختلاف في فترة كان العالم منغمس بالحروب والصراعات.
أن الدول تجعل من تاريخها أساساً لإيجاد هوية وطنية جامعة ولا نذهب بعيداً للبحث عن نموذج فتركيا وايران خير مثال على الدول المتماسكة مجتمعياً نتيجة اعتزازها بتاريخها وتراثها وما العراق أقل شأناً فجذور العراق ضاربة في عمق التاريخ، فلماذا نتناسى تاريخنا العظيم ولا نأخذ منه سوى مايختلف عليه المؤرخون ليكون مصدراًللنزاع!، التاريخ مهم في صناعةالمستقبل إن وظِّف بالشكل الصحيح، فالتاريخ العظيم دليل على وجود أمة عظيمة، متماسكة وموحدة.
هيام علي المرهج