عن الجيل الذي لا يخاف

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2018-10-04 20:06:01

علي عبد الهادي المعموري

حين عرّف علماء الاجتماع السياسي التنئشة بوصفها (العملية التي يتم بمقتضاها نقل القيم عبر الاجيال)، فإنهم وضعوا لهذه العملية ثلاثة نواقل، تبدأ بالأسرة، ثم جماعات الأقران، والمدرسة، وفي الوقت الذي أنجز د. صادق الأسود كتابه (علم الاجتماع السياسي) في سبعينات القرن الماضي، توقع أن يتعاظم دور ناقل رابع، يتعلق بتطور وسائل الاتصال والإعلام، وكان تبصرا مستقبليا في غاية الحكمة من العالم العراقي الراحل.

الواقع اليوم يبرز أن المُشَكِّل الأكبر لصناعة القيم هو وسائل التواصل الاجتماعي، وأمام سطوتها فقد ضمر حتى دور الأسرة والمدرسة الى حد كبير، باستثناء الحالة التي تنسجم فيها قيم الأسرة مع القيم التي تصنعها وسائل التواصل والتكنولوجيا.

ولنا أن نسأل هنا، ما هي القيم التي تشكل نقاط خلاف بين الجيل القديم، جيل الأيديولوجيا، والجيل الحديث، جيل التكنولوجيا؟ بعبارة أدق، كيف تضائل دور الاسرة والتعليم تجاه وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي حتى اكتسحتها ولم تبق لها دور كبير في عملية التنشئة وتكوين القيم؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تستوجب الإشارة الى ما عانته الأجيال القديمة في العراق من قيم كان الخوف من المحاذير الدينية والديكتاتورية اساسها، وكيف تمحورت تنشئتهم حول الكوابح والحدود، والخطوط الحمراء التي تقيد الانسان منذ طفولته، قيود دينية، وأخرى ايديولوجية، يخضع لمحاذير تمنعه من كسر قواعد اجتماعية متعددة، وفي أحيان كثيرا يخضع لقواعد ترتكز على العرف أكثر مما تستند لشرعية قانونية أو دينية، زامنها تعاقب نظم عسكرية وديكتاتورية منذ العام 1958، بطريقة ولدت مخاوف من التفكير الحر، والعمل السياسي، والاحتجاج، كنتيجة طبيعية للقمع الديكتاتوري والمجازر التي سببها الصدام الايديولوجي، بين القوميين والشيوعيين، ثم بين القوميين البعثيين والإسلاميين.

وخلال الأعوام الأولى التي تلت التغيير عام 2003، كان شبح حزب البعث، ونظام صدام حسين يخيم على كل شيء، على آليات تأسيس النظام السياسي المنهار، على التفكير الجمعي، وأطر العلاقة مع الآخر، لأن الأجيال الفاعلة خلال تلك السنوات كانت ممن اكتوى بنار حكم صدام حسين، الأمر الذي قاد الى تخندق طائفي وتمترس آيديولوجي عقائدي شديد، كانت الاخطاء الحكومية تغتفر بسببه، والأحزاب المعارضة لنظام صدام حسين تتخذه سلما الى السلطة، وتجعله درعا أمام كل خطر يرجف بها، تجذب به الدعم الشعبي وإن لم تنجح في تلبية المطالب العامة.

ولكن، وبعد 15 عشر عام على سقوط نظام صدام حسين، كبر جيل لم يعرف صدام، لم يكتو بنار حكمه، جيل لا يفهم سوى أن هناك فشل متراكم منذ العام 2003، ومكنته التنكولوجيا من أن يقارن بين بلده الغني وبلدان فقيرة مستقرة وتتوفر بها سبل العيش بطريقة جعلت العراق لا يتمتع بربع استقرارها، ولا بدرجة بسيطة من الخدمات التي يمتلكها مواطنوا تلك البلدان الفقيرة، جيل سافر كثيرا، ومن لم يسافر فإن الفيسبوك ومواقع التواصل الأخرى تنقل له يوميا آلاف من الصور التي تبين حال البلدان الأخرى، وتركز على الاخطاء التي حدثت بعد 2003 دون أن تبين أسبابها، وتتجاهل الايجابيات التي تحققت في ظل عجز كبير من قبل الإعلام الرسمي، والإعلام الممول من القوى السياسية أمام تقديم صورة دقيقة عن الايجابيات التي تحققت بعد 2003 وما تم انجازه فعليا، وتبيان أسباب الفشل في النواحي الأخرى.

إن هذا الجيل الذي دخل انتخابات 2018، ونزل الى الحياة العامة، ممن ولجوا الى الحياة الجامعية لتوهم، أو ممن تخرجوا ونزلوا الى سوق عمل شحيح لا يستطيع اسيتعابهم، هم جيل لا يعرف عن صدام حسين سوى ما يراه من بنايات شيدتها مؤسسات الدولة أيام حقبته، جيل يتظر بحسرة الى البنية التحتية التي شيدها النظام السابق أيام الهبة النفطية خلال سبعينات القرن الماضي، من مستشفيات وطرق ومدارس وجامعات هي التي تسد حاجته اليومية، وإن بطريقة شحيحة لسوء ادارتها.

إن هذا الجيل، لا يخاف من البعث، لا ترهبه عودته، لا يذعن للمحاذير الدينية، ولا يستمع لوعاظ السلاطين، ولا يحترم المؤسسات الاجتماعية الراسخة إذا خالفت تطلعاته، جيل يبحث عن الانجاز، يريد أن يعيش برفاهية، يحتاج الى الكهرباء والماء والبناء الجيد والتعليم الجيد والانترنيت الجيد ـ نعم الى هذه الدرجة ـ يريد أن يسافر، وأن يركب سيارات حديثة وفارهة، جيل لا يشعر بأن هويته المذهبية مهددة، كما أنه جيل لا يعرف الهوية العراقية الوطنية.

إن عدم الشعور بالخطر على الهوية المذهبية تركز خصوصا بعد تجربة احتلال الموصل وظهور تنظيم داعش، إذ هب الشباب ليتطوعوا في صفوف الحشد الشعبي محققين تحت مظلة الدولة والقوات النظامية الأخرى انتصارات مذهلة، ملئتهم بالعنفوان والزهو تجاه قدرتهم وذاتهم المذهبية الجمعية، صار في يقينهم أنهم أقوياء، وأن التهديدات التي كانت تصوّر لهم تجاه هويتهم المذهبية لا تستحق الاهتمام الذي ابدوه لها من قبل، والدليل أنهم هزموا التهديد الأكثر عتوا وضراوة وخطرا على وجودهم الوطني بالمجمل، والمذهبي بشكل أخص، لهذا فإن اعداد كبيرة من الشباب المتطوعين الذي قاتلوا داعش انضموا الى التظاهرات التي طالبت بالخدمات وبالاصلاح السياسي في محافظات العراق.

بذات الوقت، فإن هذا الجيل هو جيل آنيّ، لحظي، يركز على ما بيده، لا يأبه لماضيه، ويتطلع الى مستقبله، يتخذ من دويلات الخليج على تهافت منجزها مثالا أعلى له، ما يبين أنه لا يهتم لموضوع الهوية والعمق التاريخي، ينظر الى البنايات الضخمة، والسيارات الفارهة، وجواز السفر القوي، يتطلع الى القوة والرفاهية كهوية، وهدف، جيل لا يستمع الى حكمة الشيوخ، بل يصنع قيمه من الفيسبوك، واليوتيوب، يخضع للاصوات الشعبوية، وينساق خلف التهريج الإعلامي، جيل يعبر عن نفسه بالشتم والميل نحو العنف، تتشكل قيمه بلحظة وتتبخر بأخرى، ومحورها ذاته، ومتطلباته الفردية، الفرد قبل كل شيء.

بالتأسيس على هذا كله، لم يعد ممكنا أن يتم التعامل مع جيل الشباب اليوم بآليات الماضي وبالخطاب القديم، إن احتوائهم، وشدهم الى وطنهم وهويتهم الوطنية يتطلب عملا مباشر وليس بالخطب والمحاذير.