عقيدة ترامب: تصور لنظام عالمي مضطرب

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2018-07-25 19:20:24

د. أحمد يوسف كيطان

قسم الدراسات الاقتصادية

تُعرّف العقيدة (Doctrine) في السياسة الخارجية الامريكية بأنها خطة عمل "استراتيجية" تتأسس على قناعات بناءً على مقدمات يضعها الرئيس وإدارته وفق معطيات الواقع للتعامل مع العالم الخارجي، اي بعبارة اخرى هي استراتيجية تحدد كيفية عمل الرئيس في مجال السياسة الخارجية في ظل الواقع والظروف التي يجد نفسه فيها، وهي تجسيد عام للسياسة والمعتقدات على نحو من الاتساق والترابط المنطقي والمتانة. والعقائد بحسب(جورج فريدمان) يجب ان لا يُنظر اليها على انها اعمال عبقرية فذّة او قرارات او سياسات تُتخذ بإرادة الرئيس، وإنما هي اجراءات مفروضة عليه يمليها الواقع الدولي والظروف السائدة في مدة زمنية معينة، اي في مدة ولاية الرئيس.  

في بعض الأحيان، يعلن رؤساء الولايات المتحدة بصورة رسمية عن عقائد السياسة الخارجية الخاصة بهم، ومن الامثلة على ذلك: عقيدة ترومان(1947) المتعلقة باحتواء الخطر الشيوعي والتي تضمنت دعم تركيا واليونان في وجه التهديدات السوفيتية، وعقيدة نيكسون(1969) والمتعلقة بالحد من تدخل الولايات المتحدة المباشر في الخارج لحماية حلفائها، وتقوم بدلاً عن ذلك بتقديم الدعم والحماية لهم، وعلى هؤلاء الحلفاء أن يعتمدوا في المقام الأول على مواردهم الخاصة من أجل حماية أمنهم، وجاء تبني تلك العقيدة نتيجة تنامي المعارضة الداخلية بسبب التدخل العسكري الامريكي في فيتنام. وفي أحيان أخرى لا يعلن الرؤساء عن اية عقيدة، بل يقوم المختصون والمراقبون بتحليل نمط متماسك مُعيّن في السياسة الخارجية للرئيس، وعلى اساسه يحددون العقيدة الخاصة بذلك الرئيس، ومن الامثلة على ذلك: عقيدة اوباما(2009)، اذ لم يحدد الرئيس باراك أوباما أبداً عقيدة خاصة بالإعلان عنها كعقيدة او استراتيجية محددة بعينها، لكن المختصين والمراقبين استخلصوا من سلوكه في المجال الخارجي عقيدة متماسكة جوهرها تجنب الدخول في اية حروب جديدة في الشرق الأوسط وتقليل التدخل فيه بشكل عام، وتخفيف حدة العداء بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، حيث ان الولايات المتحدة لم تنجح عسكرياً في حروبها في العالم الإسلامي، بالتالي فإن الحد من طموحات الولايات المتحدة وانخراطها عسكرياً في مناطق الصراع هناك اصبح أمراً ضرورياً. اما الرئيس ترامب والذي يمثل اول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة يصل الى منصب الرئاسة، بدون ان يكون لديه خبرة عملية سابقة من خلال العمل في دوائر الحكم او الخدمة في القوات المسلحة او الاجهزة الاستخبارية، فإنه وعلى الرغم من ذلك يتصرف ترامب بثقة كبيرة في التصدي لملفات السياستين الداخلية والخارجية، بصورة تضاهي -من وجهة نظره- رجال الدولة المتمرسين من جنرالات الجيش والدبلوماسيين وضباط الاستخبارات وأعضاء مجلس الشيوخ، ممن كان لهم الباع الطويل من الخبرة والممارسة في ادارة اجهزة ومؤسسات الحكم والتعاطي مع قضايا الأمن القومي للولايات المتحدة الامريكية.

من هذا المنطلق، وعن طريق تحليل عقيدة الرئيس ترامب واجندتها الخاصة بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة الامريكية سواءً التي اعلن عنها في اثناء حملته الانتخابية، او التي بدأ بتنفيذها على ارض الواقع منذ توليه السلطة في كانون الثاني من العام(2017)، نلاحظ انها تقوم على مجموعة ركائز أساسية اهمها: اولاً/ أولوية الاقتصاد على السياسة، ثانياً/ التركيز على التحالفات الثنائية بدلاً عن المؤسسات الدولية والتحالفات المتعددة الاطراف، ثالثاً/ الاعتقاد بأن اوروبا تشترك مع الولايات المتحدة بالثقافة وليس بالقيم، رابعاً/ إحياء فكرة "مجالات النفوذ المهمة"، خامساً/ عدم استبعاد امكانية استخدام القوة العسكرية. ويرى الكاتب الامريكي(جيفري جولدبيرج) كبير محرري صحيفة (The Atlantic) ان عقيدة ترامب تقوم على ثلاثة مبادئ اساسية، هي: اولاً/ "لا أصدقاء ولا أعداء-No friends, no enemies"، ثانياً/ "زعزعة الاستقرار الدائمة تخلق ميزة أمريكية- Permanent destabilization creates American advantage"، ثالثاً/ "نحن أمريكا، العاهرة- We’re America, bitch"، ومن ناحية اخرى تتبع عقيدة ترامب استراتيجية تقوم على اساس نزع فتيل المواقف التي قد تتطلب مواجهات عسكرية مباشرة، والدخول بدلاً عن ذلك في مواجهات اقتصادية مباشرة، مع تجاهل آراء ومواقف حلفاء الولايات المتحدة بشكل كبير.

بحسب قراءة الرئيس ترامب للمشهد السياسي الدولي ولوضع الولايات المتحدة في الخارج؛ فإن لدى الولايات المتحدة قوات منتشرة على نطاق واسع في مختلف مناطق العالم تكلّف الموازنة الامريكية مبالغ طائلة، بعض تلك القوات تشارك في عمليات قتالية في الشرق الأوسط الى جانب قوات حليفة او صديقة (الصراع في سوريا)، والبعض الآخر تم نشرها في كل من دول البلطيق الثلاث وبولندا ورومانيا لمواجهة التهديدات الروسية المحتملة ضد تلك الدول(توسع الناتو باتجاه الحدود الروسية وأزمة الدرع الصاروخي)، كما تشارك قوات البحرية الأمريكية في عمليات غير قتالية في بحر الصين الجنوبي(تحدي ادعاء الصين السيادة على تلك المنطقة)، وقوات أمريكية اخرى في شبه الجزيرة الكورية وضعت بدرجة التأهب القصوى لتنفيذ ضربة عسكرية محتملة ضد كوريا الشمالية إذا لزم الأمر. بالتالي، فإن نشر القوات العسكرية الامريكية على مساحة شاسعة من الأراضي يخلق مشكلة خطيرة، تتمثل في عدم تمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على زخم قتالي مكثف في جميع تلك المسارح في وقت واحد، إذ ان اندلاع حرب في أي مسرح منها سيُضعف من القدرات العسكرية الامريكية في مسرح آخر، الامر الذي يزيد من احتمالية استفادة القوى المناوئة للولايات المتحدة من ذلك الضعف. ونظراً لتعدد المسارح التي من المحتمل اندلاع عمليات قتال فيها، واحتمال تشتيت تركيز الولايات المتحدة بالنتيجة على المسارح الاخرى، فإن قضية تجنب القتال تصبح أمراً ضرورياً للحفاظ على المصالح القومية الامريكية في مناطق العالم المختلفة. من ناحية اخرى، يعتقد ترامب بأن الولايات المتحدة تنفق اموال طائلة في خدمة حلفائها، وان اولئك الحلفاء يقومون باستغلال المظلة الامنية الامريكية التي توفرها بلاده، وينفقون اقل مما تنفقه الولايات المتحدة لحماية امنهم ومصالحهم، بالتالي فإن على الولايات المتحدة اعادة النظر في تحالفاتها، وترك شركائها يدافعون عن دولهم بأنفسهم ويكرسون أموالهم لتلبية احتياجاتهم الامنية، وان يعتمدوا على انفسهم بدلاً عن الاعتماد على الولايات المتحدة كما في السابق .

ان طريقة تعاطي ترامب مع الأزمات والقضايا الدولية وفقاً لهذه العقيدة يجري بصورة مختلفة عن السابق، فبالنسبة للأزمة الكورية على سبيل المثال: اختار ترامب سياسة تقوم على ترجيح كفة الخيار التفاوضي ومحاولة الوصول الى صيغة تفاهم مقبولة مع نظام الرئيس كيم يونغ أون (الدكتاتوري)، من بين خيارات اخرى تقوم على درجة عالية من الخطورة، كالخيار العسكري الذي قد يجر الى حرب نووية مدمرة، او خيار ابقاء الوضع على ما هو عليه(حالة العداء) واستمرار كوريا الشمالية بتطوير برنامجها النووي والصاروخي، بالتالي اثمر ذلك عن عقد القمة التاريخية التي جمعت ترامب بنظيره الكوري في حزيران الماضي وما ترتب عليها من قرارات لحل الازمة. اما فيما يتعلق بالعلاقة مع روسيا الاتحادية، فقد كانت امام ترامب مجموعة خيارات مماثلة للتعامل مع روسيا تتراوح بين: العدائية، أو التعاطي السلبي، أو الخيار الدبلوماسي، ونظراً للانخراط الروسي في الشرق الاوسط (الصراع في سوريا) بما تمثله هذه المنطقة الحيوية للمصالح القومية للولايات المتحدة، فضلاً على التهديدات الروسية المحتملة لأوروبا الشرقية والقوقاز، اختار ترامب الخيار الدبلوماسي والتقارب مع روسيا والعمل على ايجاد تفاهمات في الملفات المشتركة بعيداً عن مخاطر التصعيد والصدام المباشر والمواقف المشحونة وهذا ما جرى بالفعل في اللقاء الاخير بين الزعيمين في منتصف شهر تموز الحالي.

اما على الصعيد الاقتصادي والتجاري، تقوم عقيدة ترامب على اجندة جديدة تنطلق من منظار مختلف تماماً عن السابق، إذ يعتقد ترامب بأن نظام التجارة الحرة الذي ظهر منذ الحرب العالمية الثانية لا يحقق مزايا كبيرة للولايات المتحدة، فالصادرات الامريكية تساهم بنسبة محدودة نسبياً في إجمالي الناتج المحلي، اي ان الاقتصاد الأمريكي لا يعتمد بصورة رئيسية على الصادرات، كون الميزان التجاري للولايات المتحدة مع دول كبرى كالصين واليابان والمانيا لا يميل لصالحها. بالتالي فإن الأدوات الاقتصادية القائمة على الضغط الاقتصادي وفرض الرسوم الجمركية على الواردات قد تؤدي بالنتيجة الى اشعال حروب تجارية مع القوى الكبرى. وبطبيعة الحال، فإن تلك السياسات ستزيد من تفاقم التوترات في العالم، وتؤدي إلى تدهور علاقات الولايات المتحدة وخسارتها حلفاء مهمين واثارة الرأي العام العالمي ضدها. لكن ترامب على ما يبدو غير مبالٍ بالرأي العام العالمي ولا برأي حلفائه الاطلسيين.

نخلص مما تقدم، ان النظام العالمي الذي ساهمت بقوة في تأسيسه الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية -خصصت فيها نحو40% من الناتج المحلي الاجمالي الامريكي على العمليات العسكرية في تلك الحرب- على اساس مجموعة من القيم العالمية، وعززت موقعها كقوة عظمى وقطب عالمي على مستوى "نظام دولي قائم على القواعد" عن طريق: تعزيز قيم الديمقراطية، وتقديم التزامات دائمة للدول التي تشترك معها في نفس القيم، وحماية الدول الحليفة، والنهوض بالتجارة الحرة، وبناء مؤسسات وأنماط السلوك التي تضفي الشرعية على القوة الأمريكية من خلال إعطاء الدول الصغيرة والضعيفة الحق في ابداء رأيها والتصويت على القضايا الدولية، أصبح مُهدداً بشكل كبير من قبل الاجندة التي تتضمنها "عقيدة ترامب"، إذ أن التجاهل المتهور للمخاوف الأمنية لحلفاء الولايات المتحدة، والعداء للتجارة الحرة ذات المنفعة المتبادلة، والعزلة المتعمدة للولايات المتحدة بصورة غير مسبوقة، يُهدد بالنتيجة مستقبل التحالفات الأمنية والعسكرية والعلاقات التجارية والمؤسسات الدولية التي ميزت النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ اكثر من سبعون عاماً، ويخلق نظاماً جديداً يقوم على اساس القطبية الاحادية التي يُجسدها شعار ترامب "امريكا اولاً- America First"، ويتجاهل مصالح دول العالم الديمقراطي، ولا يعطي اولوية لتعزيز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا يناوئ الانظمة الديكتاتورية بل يتحالف معها. ان النظام العالمي الجديد القائم على تصورات السيد ترامب ورؤاه سُيدخل العالم في حقبة جديدة مخيفة تقوم على اسس وانماط مغايرة من العلاقات الدولية، الامر الذي يُهدد بخلق نظام عالمي مضطرب يتهدد فيه السلم والامن وتكثر فيه الصراعات والحروب.