السيستانية؛ نظرية الدولة الاكثر حداثة

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2018-05-07 14:50:43

ابراهيم العبادي

منذ الميرزا النائيني صاحب الدولة الدستورية، ظلت نظريات الدولة وفقا لاجتهادات فقهاء الامامية مشدودة الى اصل ثابت وهو النيابة العامة عن المعصوم وتتوسل في الان ذاته اليات حديثة للتصويت والانتخاب والرقابة، محاولة ان تجيب على اكثر الاسئلة الحاحا فيما يخص حدود حريات الافراد واختياراتهم فيما لا يتعارض مع الاصل التشريعي الاسلامي، جمع الشيخ محسن كديور اكثر من ستة عشر نظرية لفقهاء شيعة تراوحت بين نظرية ولاية الفقيه المطلقة للامام الخميني وبين نظرية ولاية الامة على نفسها للراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين مرورا بنظريات وسطية كما هي نظرية الشهيد محمد باقر الصدر التي جمعت بين خيار الامة واصل الولاية للفقيه الجامع للشرائط، جميع تلك النظريات بقيت مقيدة بالدور المحوري للفقيه مع مساحة مفتوحة للامة باستثناء نظرية الشيخ شمس الدين التي اعطت للامة حرية الاختيار دون ان تنظر كثيرا للاليات مع درجة كبيرة من التخوفات التي لم  يعالجها الشيخ الراحل .

ابداع النجف الجديد تجسد في المشروعية الكاملة التي منحها السيد السيستاني للدولة الديمقراطية التي تقوم على قواعد الدستور والتعددية وحرية الترشيح والانتخاب ومسؤولية الفرد - المواطن الذاتية وحقه في المشاركة في السلطة او التخلي عن هذا الحق.

البيان السيستاني الشهير المؤرخ في الرابع من مايس/ايار عام 2018 الموافق للسابع عشر من شعبان 1439 هجرية، هو بحق (المانفيستو) الديمقراطي الذي سيكون نظرية الدولة المستقبلية التي اجترحها العقل الفقهي الامامي وهو يواكب حركية الفكر في الزمان العالمي، فقبل هذا البيان كان الاسلاميون الشيعة يواجهون حرج الموقف من الدولة غير الاسلامية في ادبياتهم الكلاسيكية، ما مشروعية المشاركة فيها؟ وباي حدود؟ وما مدى شرعية قوانينها وسياساتها ومواقفها؟ والى اي مدى يصح الاعتماد على رأي الجمهور وأصواته في تقرير مشروعية هذه المواقف والسياسات؟ بل كيف يمكن الخلاص من مأزق معارضة من لا يوافقهم الراي في اقامة النظام السياسي الذي انتجه الفقه الشيعي بمحدداته واشتراطاته المعروفة

اليوم حلت هذه العقد جميعا وبات الاشتراك في اقامة النظم الديمقراطية القائمة على القواعد والاليات التي مر ذكرها مشروعا ولا يمكن ان يوصف بأنه ركون الى الظلمة وترجيح الوضعي على الشرعي وليس افتئاتا على حق الله والرسول والامام المعصوم وليس خروجا على ثوابت الامة وفكرها وعقيدتها وفقهها السياسي، لقد صالحت النظرية السيستانية الامة مع نفسها ومع ما توصل إليه الفكر البشري من نظم وآليات وفلسفات سياسية حاولت ان تعالج الاستبداد وتؤصل لحرية الانسان وتوقه الى العدالة وتحقيق ذاته وكينونته البشرية ونزوعه الى تقرير مصيره بنفسه .

القيد السيستاني الوحيد هو عدم التصادم مع ضروريات الاسلام، وهو تحصيل حاصل وإن لم يشر إليه البيان.

نحن امام لحظة زمنية فارقة سيكون فيها الفقه السياسي الاسلامي الشيعي بين زمنين، زمن ما قبل النظرية السيستانية منذ ان بدأ الجدل والتنظير للدولة السلطانية في النجف ايام المحقق الكركي ولغاية اللحظة، وزمن ما بعدها، يتعين على الحركات الاسلامية الشيعية ان تواكب هذه النقلة الكبرى لتعيد بناء نظرياتها السياسية بما يتوافق مع المنتج الفقهي والسياسي الجديد ولتخرج من العقد التى واجهتها بين ان تبقى وفية لفكرها الستيني ومتطلبات واقعها الذي دخلت فيه بقوة لتقود أو تشارك في انظمة سياسية لم تكن مشروعة في مقاساتها الفكرية والشرعية.

مرة اخرى تسجل النجف حضورها الكبير في المحطات المصيرية الكبرى، وتضع الجمهور ومفكريه ومثقفيه وساسته  ليكونوا في مستوى المسؤولية التاريخية، ولتحسم على ارض العراق كبرى المعارك الفكرية والعسكرية في مواجهة عقول منغلقة وبنى متصلبة متحجرة لصالح الانسان وكرامته وحريته .