السياسات الرمزية للدولة والأمن الوطني

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2017-11-30 20:25:31

علي عبد الهادي المعموري

يركز الخطاب السائد حول الدولة في كثير من الأحيان على موضوعة عناصر الدولة المادية وحسب، دون الالتفات إلى عناصرها المعنوية، التي لا تقل خطورة عن العناصر المادية وتلعب دورا أساسا في قوة وهيبة الدولة وتدعيم أسسها.

وفي الواقع، فإن نقطة الانطلاق الأولى لتأسيس الدولة هي معنوية غير مادية، بافتراض أن الدولة تتشكل أول أمرها في النفوس، كصورة متخيلة يُطمح لها، بل إن العقد الاجتماعي المؤسس للدولة هو عقد معنوي غير مادي، بالرغم من أنه يتجلى بعناصر مادية تتمثل بالعناصر المشكلة للدولة، من سكان وأرض تنتظم تحت ظل نظام سياسي يحتكر الإكراه الشرعي.

وما دام النظام السياسي شرطا للدولة، فإن وظائفه، التي تتجسد بعمليات تتدفق عبر سياسات عامة يتخذها النظام السياسي لإدارة الشأن العام وحل المشاكل العامة، لتعبر بذات الوقت عن روح الدولة وكنهها، وعمليات النظام السياسي، التي تمثل وظائفه هي أربعة:

  1. الوظائف الاستخراجية (جني الموارد اللازمة لتمويل النظام السياسي ودولته).
  2. الوظائف التوزيعية (تخصيص تلك الموارد وأوجه إنفاقها).
  3. السياسات التنظيمية (تتعلق بكيفية إدارة عمليات الوظيفتين السابقتين، وإيقاع الأحكام القانونية على مواطني الدولة الذين تتعلق بهم هاتان العمليتان بما يضمن استقرار النظام الذي يحافظ على الدولة).
  4. السياسات الرمزية (تنصرف إلى جعل تلك القوانين، والسياسات تحظى بتأييد المواطنين لا مجرد انصياعهم وخوفهم، إنها تركز على الجانب اللامادي للدولة والنظام السياسي، وتحفز المواطنة والهوية الوطنية).

وما يهمنا هنا هو التركيز على السياسات الرمزية تحديدا, ودورها في تعزيز سياسات الأمن الوطني، وعلى اي حال، لا يخطئ من يظن أن الرضا عن الدولة، رضا المواطنين، بمختلف طبقاتهم وإثنياتهم ـ خصوصا في الدول التي تمتلك تنوعا واسعا في عنصرها السكاني ـ يعد أهم ركيزة تعتمد عليها الدولة، ويستخدمها نظامها السياسي في تعزيز سياساته العامة، ضمانا لأمنه الوطني.

إذ يعد الرضا العام عن السياسات العامة هو المعيار الأهم لتقييم مدى نجاح هذه السياسات، وبقدر ما يتعلق هذا الرضا بفعالية تلك السياسات العامة، وقدرتها على الإيفاء بالحاجات الاجتماعية، وحل المشاكل العامة، فإنه بذات الوقت يعتمد على مسألة دقيقة تتعلق باتفاق المجتمع على شكل الدولة واستعداده لقبول انجازها صيانة لوجودها في حياته، وهذا يتطلب بدوره تعزيزا مستمرا لهوية الدولة وصورتها، عبر ما يطلق عليه علماء الاجتماع السياسي (السياسات الرمزية).

والسياسات الرمزية ببساطة هي مجموعة واسعة تضم أفعالا حكومية ورموزا تؤكد الحضور التاريخي للأمة في الوعي الجمعي بطريقة مستمرة يومية، كمعبر عن وجودها الحاضر، الذي تربطه بماضيها وشائج عميقة، معنوية، ومادية، مثل العلم، الاستعراضات العسكرية، الرموز والنصب السياسية، النشيد الوطني، الخ.

وهذه السياسات تمثل رابطا معنويا غير منظور، يشد الفرد الى دولته، ويعزز مواطتنه، وهي لا تتفعل بسهولة وبطريقة تلقائية، بل تستند الى عوامل عديدة متشابكة ومعقدة، تبدأ من أول لحظة قيام الدولة، والاتفاق عليها، وقبول النظام السياسي المنبثق عنها، وتشييد البنية القانونية التي يعتمدها النظام لإدارة الشأن العام، بطريقة تجعل الفرد يجد أن قبولها شرط مواطتنه، وأن مواطتنه ثمينة وتستحق التضحية.

ثم تترسخ عبر آليات وقنوات التنشئة، بفرض أن التنشئة تمثل العملية التي بمقتضاها يتم نقل القيم عبر الأجيال، وفق قنوات معينة تتمثل بالأسرة وجماعات الأقران والمدرسة ووسائل التواصل والإعلام وكل ما تتضمنه التكنولوجيا ضمن هذا النطاق.

فلو تحدثنا مثلا عن النصب التاريخية، فإن عملية التفاعل معها تتطلب معرفة تاريخية، تنشئة يتلقاها الطالب في المدرسة، تبين له تاريخ بلده بطريقة ناصعة، تمجد انجازات الماضين، وتعزز مشاعر الفخر الوطني، وترسخ تلك المحطات التاريخية ضمن عملية تلقين متواصل عبر قنوات متعددة، مثل نُصب الابطال الوطنيين، والشعراء، والفنانين، والعلماء، والمبدعين، والنُصُب التي تتحدث عن ثورات البلد، ومسيرته في البناء، ويلاحظ مثلا في هذا السياق أن الدول الراسخة، وبقدر ما تعتمد مناهجا تاريخية في مدارسها، فإنها أيضا تعزز تلك المناهج بزيارات ميدانية الى المتاحف، والنصب التذكارية.

ومن البديهي أن مسألة التنشئة الوطنية تَصُب بالدرجة الأولى على النشئ الجديد، وقد لا تكون فاعلة مع الذين تقدمت بهم أعمارهم في ظل أزمات متعددة شهدها بلد مثل العراق، مما يعني ضرورة الالتفات الى موضوع السياسات الرمزية ضمن العملية التربوية في المدارس العراقية، بطريقة تعزز تكوينهم السياسي في طريق تعزيز المواطنة الفاعلة والحس الوطني.

ولا تقتصر السياسات الرمزية عند هذا الحد، وفيما يتعلق بالجانب الصلب من الأمن تحديدا، الذي يتمثل بالقوى المسلحة، سنجد أن السياسات الرمزية تلعب دورا مهما ضمن الإجراءات المباشرة، فمن المتعارف عليه أن النظام السياسي الذي يفرط في مظاهر الأمن هو نظام يعاني من مشاكل واختلالات أمنية عميقة، الأمر الذي ينعكس على الحالة النفسية للمواطن، الذي يلاحظ الإفراط في المظاهر المسلحة حوله في كل مكان بما يشعره بالتوتر، لهذا تحرص الكثير من الدول على أن لا تكون إجرائاتها الأمنية بادية للعيان بتشكيلات مسلحة كثيرة تظهر في كل زاوية وتطوق المواطن حيث يلتفت، إشعارا منها للفرد بأن الأمن مستتب بالاتفاق، وبإحاطة النظام السياسي بكل ما قد يخل بالنظام، وبأن الدولة تحقق أمنها بتحقيق الرضا العام عنها، بطريقة تجعل كل فرد أمينا بذاته على السلم والأمن العام.

ومن المهم عند هذا الموضع التشديد على أن السياسات الرمزية ليست مرادفا للهوية، أو للقيم، إذ أنها تتعلق تحديدا بآلية تمتين واستدامة القيم وركائز الهوية، وعملية الاستدامة هذه تُحْوِج الى أن تكون السياسات الرمزية متجددة، وبذات الوقت ـ ورغم أنها آلية ـ لكنها أيضا تنطوي على جانب فكري مهم، إذ من الضروري أن تستند على ركيزة قيمية عميقة، تجعل البعد المعنوي قويا فاعلا مؤثرا.

ومن البديهي أن تظافر مجمل عمليات النظام السياسي، وعملها بتناغم واتساق، يمثل نجاحا لعمل النظام السياسي في خدمة الدولة بكل عناصرها المادية والمعنوية، بما يحقق هدفها الأول ووظيفتها: الحماية والأمن.

على أي حال، فإن الاسترسال في الحديث عن السياسات الرمزية يتطلب مساحة واسعة لا تتسع لها هذه العجالة، ونكتفي بما أوردناه كأمثلة لتبيين دورها، ونختم عند هذا الموضع.