
السياسات العامة حصانة الامن القومي
التصنيف: مقالات
تاريخ النشر: 2025-01-15 23:06:44
الباحث
زهير حمودي الجبوري
قسم الدراسات السياسية
مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية
مقدمة: ولد الحدث السوري المتمثل بسقوط نظام بشار الاسد على يد فصائل مسلحة مدرجة على قوائم الارهاب العالمي حذرا في دول الشرق الأوسط وقلقا مشروعا كبيرا في العراق نتيجة للحوار الجغرافي بين البلدين والتجربة المريرة لهذه الفصائل في اجتياحها للحدود العراقية و إرتكابها مجازر وحشية في المدن العراقية قبل عشرة سنوات وأن حاولت هذه الفصائل تغيير عنوانها وشكلها ، وهذا ما دفع الحكومة العراقية القيام بعدة أجراءات أمنية وعسكرية على الحدود العراقية السورية مع جولة من الحراك الدبلوماسي مع الدول الفاعلة والمؤثرة في المنطقة ، وبالرغم من أهمية هذا الجهد الامني والدبلوماسي لكن يبقى تحصين الجبهة الداخلية هي الحصانة الفعلية للامن الوطني العراقي .
ومن خلال هذه المقالة نحاول أن نتناول ثلاثة مفاهيم سياسية وأساسية شهدت توسعا واضحا ولكن بتفاعلات وتكامل هذه المفاهيم يمكننا أن نحقق الحماية والامن والاستقرار العراقي وتقويض التهديدات الداخلية والخارجية وهذه المفاهيم هي السيادة، والامن القومي ، والسياسات العامة :
- مفهوم السيادة : يعتبر مفهوم السيادة من المفاهيم الأساسية في علم السياسة والقانون الدولي ويعبر بأبسط صوره هو قدرة الدولة المستقلة على الحكم وتنظيم شؤونها السياسية بارادتها دون تدخل خارجي ، وأن يكون للدولة السيطرة المطلقة بالتصرف على أقليمها (الارض ) ومافيه ( الإنسان والثروات ) وما فوقه ( الفضاء ) الذي يعلوها ،وقد أوضح ذلك - جون بودان - في تعريفه لمفهوم السيادة ( السلطة الدائمة والمطلقة للدولة التي لا تخضع لأي سلطة أخرى ) بأعتباره من أوائل من نظر لمفهوم السيادة ، ولكن بمرور الوقت وتطور العلاقات الدولية وظهور القوانين والمؤسسات الدولية والتطور الكبير في عالم الاتصال والتواصل والعلوم السبرانية طرأ على مفهوم السيادة تحولات وتطورات كثيرة أفقدته الكثير من سماته وأهمها الديمومة والمطلقة التي وصفها في تعريفه - جون بودان - ، حيث جاء في التعريف الحديث لمفهوم السيادة أنه ( قدرة الدولة على ممارستة سلطاتها الداخلية والخارجية دون الخضوع لتأثيرات خارجية مع أحترام قواعد القوانين الدولية التي تنظم هذه السيادة ) وهذا التعريف قيد من حرية الدولة المطلقة لبسط السيادة إلا بحدود القانون الدولي ، وهنا خضعت الدولة المستقلة حتى في صياغة قوانينها المحلية إلى القوانين الدولية برغم أرادتها بذريعة حقوق الإنسان وحرية الرأي والمساواة وحقوق الاقليات والديمقراطية ، وأوضح مثال على ذلك التأثير الكبير الذي عملته السفارات الاجنبية والمنظمات الدولية على السلطة التشريعية في العراق لثنيها عن تمرير تعديل قانون الاحوال الشخصية رغم خصوصيته المحلية .
وفي الجانب الاقتصادي يمكن للمؤسسات الدولية اليوم فرض أجراءات أقتصادية عقابية بحق أي دولة تعارض سياسات الدول الكبرى وهذه العقوبات تحد من ممارسة السلطة لسيادتها في التعامل الداخلي والخارجي كما يحصل اليوم مع الاموال العراقية من عائدات النفط التي تذهب إلى البنك الفدرالي الأمريكي تحت ذرائع خارجية لتقيد سيادة العراق في عائدات ثرواته الطبيعية .
وحققت تقنيات الاتصال الحديثة خرقا كبيرا في مفهوم السيادة حيث فتحت قنوات سهلة وبسيطة وفي متناول الافراد العديين للتواصل مع العالم الخارجي وتبادل مفتوح للأفكار والمعلومات وغيرها من عوامل خرق السيادة وتهديد الامن الداخلي وما ثورات الربيع العربي إلا دليل على هذا التغير الملحوظ في مفهوم السيادة للدولة .
وفي الجانب الامني تم استباحة فضاء الدول من قبل الأقمار الصناعية مما جعلها تفقد السيادة على فضائها بشكل فعلي حتى باتت العلوم السبرانية فاعلا مهما في الصراعات العسكرية وكشفت الحرب على غزة وتداعياتها من أثر العلوم السبرانية على تغيير موازين القوة الإسهام في تحقيق الغلبة على الخصوم .
هذه الأمثلة البسيطة توضح بشكل جلي على التبدل الكبير الذي طرأ على مفهوم سيادة الدولة القديم والذي فقد من سماته الكثير وفرضت واقعا جديدا على الدول يتطلب أجراءات ومعادلات وسياسات جديدةً لضمان سيادتها الفعلية على إقليمها الجغرافي .
- الامن القومي :
يعود ظهور مفهوم الامن القومي إلى القرن السابع عشر وبالتحديد بعد نشوء الدولة القومية بمعاهدة ويستفاليا عام 1648 الان ذيوع المفهوم وانتشاره جاء بعد الحرب العالمية الثانية التي زعزعت الامن القومي لجميع الدول الداخلة في الحرب وهذا ما دفع الدول إلى التعمق في دراسة مفهوم الامن القومي لمنع تكرار مثل هذه الحروب المدمرة ، لذا كان الفهم الاغلب للامن القومي هو الحماية من التهديد الخارجي والعمل على صياغة أجراءات عسكرية وخطط دفاعية في مواجهة تهديدات عسكرية أجنبية ويتعين على ذلك بزيادة القدرات العسكرية وسباق التسلح من أجل أمتلاك القوة العسكرية ، وهذا ما تجلى في تعريف -باريموتا - الذي يقول أن الامن القومي ( هو مجموعة التدابير التي تتخذها الدولة للحفاظ على وحدة أراضيها واستقلال قرارها السياسي ).
ومع تطور مفهوم الدولة وتوسع المشاركة السياسية داخل الدول ذهب - هارولد لاسويل - أكثر في تعريفه للامن القومي وأضافة التهديد الداخلي كعنصر جديد يؤثر على الامن القومي ( قدرة الدولة على توازن مصالحها من خلال الوقاية من التهديدات الداخلية والخارجية ).
وتناول علم السياسة مفهوم الامن القومي بشيء من البحث والدراسة حتى تحول إلى فرع من فروع علم السياسة
و توسع مفهومه الحديث من النطاق الامني الضيق إلى مديات أوسع تشمل كل المجالات الحياتية متماشيا مع تحول الحروب من مفاهيمها التقليدية إلى مفاهيم حديثة تتجاوز ساحات المعارك إلى أحتلال العقول والتلاعب بها قبل الصدام العسكري . فصار الامن القومي الاقتصادي والبيئي والصحي والفكري والاجتماعي ليشمل أغلب مناحي الحياة ، ومن قراءة سريعة لبعض التعريفات الحديثة للامن القومي نجده مرتبط بالقيم مرة والحفاظ على البقاء مرة وبالتنمية مرة أخرى وهذه هي حقيقة الابعاد الجديدة للامن القومي الذي عرفه
تريجر وكرننبرج الأمن القومي بأنه "ذلك الجزء من سياسة الحكومة الذي يستهدف خلق الظروف المواتية لحماية القيم الحيوية". ويعرفه هنري كيسنجربأنه يعني "أية تصرفات يسعى المجتمع – عن طريقها – إلى حفظ حقه في البقاء. أما روبرت ماكنمارا فيرى أن "الأمن هو التنمية، وبدون تنمية لا يمكن أن يوجد أمن، والدول التي لا تنمو في الواقع، لا يمكن ببساطة أن تظل آمنة.
ومن هذة الطروحات يمكن القول أن التهديد الداخلي يمكن أن يشكل عاملا مؤثرا على الامن القومي للدولة أذًا ما تعاملت الدولة مع هذه المخاطر الداخلية بصورة جدية من خلال رسم سياسات عامة تعالج مكامن التهديد الداخلي .
- مفهوم السياسات العامة : يعرف - كارل فريدرك - السياسات العامة : أنها مجموعة الاجراءات التي تتخذها الحكومة بناءا على المسؤوليات الرسمية لتحقيق مصالح المجتمع .
وهي بذلك سياسات مصاغة من قبول الحكومة ومؤسساتها المختلفة، ناتجة من بحوث ودراسات متخصصة ،على شكل خطط وبرامج تسندها تشريعات وقوانين ،لتتحول إلى قرارات وإجراءات تعالج أزمات ومشاكل وقضايا تهدد أمن وتماسك المجتمع ، وتسعى الحكومات من خلال تنفيذ هذه السياسات إلى حماية المجتمع من التهديدات الداخلية والخارجية ،وتعزيز أستقرار الدولة، وأدارة موارد الدولة الاستراتيجية ،وحماية الاقتصاد الوطني ،وتعزيز الامن الغذائي ،وحل المشكلات العامة، وتنظيم العلاقة بين الأفراد والمؤسسات ، والاستجابة للمتغيرات والتحديات ، وتحقيق الشرعية ،وتعزيز الثقة بالنظام السياسي والحكومة . وبمعنى آخر أن السياسات العامة هي حقيقة وظيفة الحكومة الحديثة القائمة على ديمومة التنمية والاستقرار والبناء والانسجام المجتمعي والوئام مع السلطة وأتساع قاعدة المشروعية وتبادل الثقة بما تقدمه من خدمات ورفاهية للمواطنين .
والعراق اليوم بأمس الحاجة إلى سياسات عامة تستهدف الأزمات والإشكالات التي يعاني منها البلد ومنها توفير الخدمات العامة بكافة قطاعاتها وأنشاء البنى التحتية وتطوير الصناعة الوطنية و أحياء القطاع الزراعي وتوفير فرص العمل وتعزيز روح المواطنة والتخلص من مساويء المحاصصة ومكافحة الفساد وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية .
الخلاصة :
من خلال أستعراض التطور المفاهيمي و التبدل الوظيفي والتوسع الاشتغالي لهذه المفاهيم السياسية يمكننا أن نتلمس بوضوح الترابط والتكامل الكبير بين هذه المفاهيم الثلاث ، بأعتبار أن تحقيق السيادة بمفهومها الحديث لا يتم إلا بتحقيق الامن القومي المتكامل بمجالاته المختلفة ، وهذا الامن القومي لا يتحقق إلا بتحصين الجبهة الداخلية للدولة عبر صياغة سياسات عامة توفر أحتياجات المجتمع وكرامته ورفاهيته والذي يخلق حالة من الانسجام والالتحام بين السلطة والشعب لمواجهة التحديات والتهديدات الخارجية ، وأن نجاح الدولة في بناء سياسات عامة حقيقية والقدرة على تنفيذها تزيل التهديدات الداخلية التي يسعى أستغلالها العدو الخارجي وتحول الجبهة الداخلية إلى جدار صد عازل أمام أي تهديد أو عدوان خارجي ، فوحدة الجبهة الداخلية وتلاحمها مع النظام السياسي هو القاعدة المتينة وصمام الامان للتحصينات الامنية على حدود البلد الخارجية ، وبعد القلق الذي أحدثه التغيير السياسي في سوريا في الداخل الرسمي والشعبي العراقي يتطلب من الحكومة العراقية العمل بخطين متوازيين هما تحصين الحدود الدولية بالقدرات العسكرية والترتيبات الامنية وبنفس الوقت بتحصين الجبهة الداخلية بسياسات عامة داخلية تسد الثغرات و تحمي سيادة البلد وتصون أمنه القومي