الامن القومي العراقي قراءة في بيئة التهديدات والتحديات

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2024-07-16 05:23:07

علي صادق كريم

      تاريخيا ارتبط الأمن القومي في العراق من حيث المفهوم والمعنى مع فترة وصول حزب البعث إلى السلطة في العراق عام 1968، إذ شهدت هذه الفترة تكوين وتأسيس النواة الأولى لجهاز المخابرات العراقي السابق، وجرى لاحقاً  تأسيس كلية الأمن القومي في منتصف السبعينيات من القرن العشرين، وقدّ اعتمد النظام السابق منهجية عمل اتبع من خلالها مجموعة من المعايير والأسس التي تبلور من خلالها رؤيته لمحيطه الخارجي ودوره في العالم العربي ويتم ذلك عبر فكر وايديولوجية البعث والقومية العربية ودعم القضايا العربية المركزية وتحت هذه المسميات والعناوين كان النظام السابق يبرر مغامراته وحروبه الخارجية، ومن خلال مؤسسة جهاز المخابرات كان النظام يشخص العدو من الصديق وحسب تأثير هذه الدول على الأمن القومي العراقي ومجاله الحيوي، إذ تلعب مجموعة من العوامل منها التاريخية والفكرية والأيديولوجية والولاء للبعث، في تصنيف دول العدو والصديق، وكل ذلك يتم عبر إيديولوجيا وفكر البعث وقد هيمنة هذه المقاربة على استراتيجية عمل النظام رغم التحولات التي مر بها منذ عام 1968 حتى عام 2003.

 

       وقدّ مثلت لحظة انهيار النظام  عام 2003 بمثابة سقوط أطروحة القومية العربية والبعثية، وتم الشروع في  تأسيس نظام سياسي جديد قائم على التعددية السياسية والحزبية، وبدأ العراق مرحلة جديدة على مستوى نظام الحكم والأمن القومي، وقدّ ورثت الحكومات بعد عام 2003 تبعات السياسات والسلوكيات الخاطئة للنظام السابق والتي تركت أثراً كبيراً على المستوى السياسي والأمني ​​والاقتصادي، إذ اصبح العراق تحت السيطرة الأمريكية وأضحى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، ومنها المشاكلات التي رافقت مرحلة تأسيس النظام الجديد، إذ لم يتم وضع حلول جذرية لتلك المشكلات، بل جرى ترحيلها من حكومة إلى حكومة أخرى حتى باتت اليوم من أهم المهددات والتحديات للأمن القومي العراقي، وجرى اعتماد نظام سياسي وفق مبدأ المحاصصة والتوافقية السياسية، إذ يرى د.علي فارس حميد “ أنّ التوافقية السياسية ساهمت وبشكل كبير في إضعاف قدرة مؤسسات صنع القرار على خلق منهجية واضحة للأمن القومي بحيث تكون قادرة على تشخيص المخاطر والتهديدات وأسس الرد عليها أو مواجهتها ضمن النطاق الأمن القومي" إضافة إلى ذلك فأن غياب عاملي الوحدة والتكامل في عمل المؤسسات ذات العلاقة في صناعة القرار تركت اثرا واضح على عمل السياسة الخارجية العراقية بعد عام 2003 اضافة الى فقدان القدرة على تحديد العدو والصديق، ويمكن الإشارة إلى أن الأمن القومي هو قدرة الدولة على حماية المصالح الوطنية العليا ومواجهة التهديدات والتحديات الداخلية والخارجية.

 

 إضافة إلى ذلك فإن العراق يحتل موقعا استراتيجيا ضمن بيئة إقليمية ودولية تشهد أزمات مستمرة، وهذا ما يجعل صانع القرار العراقي يتحرك ضمن بيئة غير مستقرة ودائمة الصراعات والازمات وعابرة للحدود،

وعلى مدى  السنوات الماضية كانت جميع جهود وإمكانيات وموارد الدولة العراقية  موجه نحوّ ملف مكافحة الإرهاب وضبط الاستقرار الأمني، إذ عند صياغة  استراتيجية الأمن القومي يتم التعاطي مع ملف التنظيمات الإرهابية والمتطرفة  كمهدد رئيسي للأمن القومي، لكن بعد هزيمة تنظيم داعش عسكرياً في نهاية ديسمبر2017، إذ بدأ نشاط الإرهاب والتنظيمات المتطرفة ينحسر، ولم يعد الإرهاب محور التهديد في العراق،  ولذلك من المهم العمل على إعادة تقييم بيئة التهديدات والمخاطر التي تواجه الأمن القومي، إذ هناك ملفات وتهديدات تواجه العراق لا تقل خطورة عن تهديد الإرهاب ، يُفترض على صانع القرار العراقي إعادة النظر في أولويتها، إذ يواجه الأمن الامن القومي العراقي مجموعة من التحديات على المستويين الداخلي والخارجي وكما يلي:

 

اولاً: التحديات الداخلية

 

1_الجريمة المنظمة: تشكل الجريمة المنظمة تهديدا بالغ الخطورة على الامن الوطني العراقي، إذ تضعف من سلطة انفاذ القانون وتهدد مؤسسات الدولة والمجتمع، إذ اصبحت الجريمة المنظمة تشكل تهديداً امنياً واقتصادياً واجتماعياً، وللأسف لم يكن تعاطي الحكومات العراقية بعد عام ٢٠٠٣ في معالجة ومكافحة الجريمة المنظمة عبر الاجراءات والتدابير المتخذة ولم تكن موفقة في إيجاد الحلول بشكل نهائي لمعالجة تلك الظاهرة لأسباب سياسية واقتصادية ودولية وضعف التشريعات وارتباط شبكات الجريمة المنظمة بجهات متنفذة  محلية واقليمية ودولية، وهذا ما انعكس سلباً على الامن والاستقرار الداخلي، إذ اضحى العراق بيئة خصبة لانتشار الجرائم ومن ابرز تلك الجرائم جريمة الفساد والمخدرات وتهريب المشتقات النفطية وغسيل الاموال وجرائم الاتجار بالبشر.

 

2_التحديات الاقتصادية: تنص المادة 25 من الدستور العراقي على أن تتكفل الدولة بإصلاح الاقتصاد العراقي، واستثمار كافة موارده، والعمل على تنويع مصادره، وتشجيع العمل في القطاع الخاص، لكن الحقيقة بعد عقدين من الزمن هناك اخفاق حقيقي وواضح في إصلاح وتنويع الاقتصاد، وتشجيع وتنظيم العمل في القطاع الخاص، والخروج من نظام الدولة الريعية التي تعتمد على الواردات النفطية فقط، إذ يواجه الاقتصاد العراقي اليوم مجموعة من التحديات والتي تتمثل في النمو السكاني وارتفاع مستويات البطالة والفقر، وترهل القطاع الحكومي، وتبني الحكومات السابقة سياسات شعبوية دمرت الاقتصاد العراقي، وبحسب تقرير البنك الدولي فإن اعتماد العراق على النفط وحده يعرض البلاد لتقلبات ألاسعار النفطية في حال حدوث تغيرات دولية أو إقليمية، مما يؤثر على الاقتصاد والأمن والاستقرار في البلاد

 

 

3_ انتشار السلاح: يعتبر انتشار السلاح خارج إطار مؤسسات الدولة من أكبر المشاكل التي تهدد الأمن القومي العراقي، إذ يعمل هذا السلاح  بشكل مباشر أو غير مباشر على الاستيلاء على موارد الدولة، ومنذ عام 2003 فشلت جميع البرامج والخطوات الحكومية في الحد من ظاهرة انتشار السلاح، إذ لا يزال العراق حتى يومنا هذا يعاني من تحديات انتشار السلاح بكميات مفرطة، إذ يشكل هذا السلاح تهديدا كبيرا على الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي ويجعل العراق بيئة غير جاذبة للاستثمارات، ولن يتمكن العراق من حل مشكلاته وازماته إذا لم يضع حداً للسلاح، والمشكلة هي أن هذا السلاح ليس في متناول جهة حكومية، وأنمّا خريطة انتشاره تتوزع بين العشائر والقبائل والجماعات الإرهابية، كما يتم بيعه في الأسواق دون ترخيص وتفويض قانوني من الدولة، ممّا يهدد السلم المدني والمجتمعي، ويضعف ثقة المواطن في قدرة الحكومة على ضبط الأمن، ممّا يؤدي إلى انتشار الفوضى والصراعات المحلية وارتفاع معدلات الجريمة وتقويض سلطة الدولة والقانون.

 

4_ التغيرات المناخية والتحديات البيئية: تعتبر التغيرات المناخية وما ينتج عنها من تغيرات بيئية من أكبر التهديدات التي تهدد الأمن الانساني، إذ تؤثر التغيرات المناخية على موارد الدولة وتشكل خطرا وتهديدا على الصحة والزراعة والغذاء والأمن، ويعتبر العراق من الدول المعرضة بشكل متزايد للتغيرات المناخية، وبحسب تقرير الأمم المتحدة فإن العراق يحتل المرتبة 61 من أصل 163 دولة فيمّا يتعلق بالمخاطر المناخية، ويعتبر العراق الدولة الخامسة من حيث نقص المياه والغذاء وارتفاع درجات الحرارة، مما يفرض تحديات مستقبلية على العراق مثل ارتفاع درجات الحرارة وقلة الأمطار وشحة المياه وملوحة الأراضي وزيادة معدل العواصف الترابية ممّا يعيق التنمية و يهدد الأمن القومي العراقي،  وهو ما يفرض على  الحكومات العراقية العمل بشكل مستمر لمواجهة تلك التحديات من خلال تحديث البنية التحتية ومواكبة الجهود الدولية لمواجهة خطر التغيرات المناخية والبيئية

 

 

 

 

ثانياً: التحديات الخارجية

1- مخيم الهول :

أدى صعود تنظيم داعش عام٢٠١٤ في العراق وسوريا إلى نزوح عشرات آلالاف من السوريين والعراقيين إلى عدة مخيمات ومن أبرز تلك المخيمات مخيم الهولالذي يقع بالقرب من الحدود العراقية_السورية، ويخضع هذا المخيم لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وقدّ حذر خبراء ومؤسسات دولية وإقليمية من خطورة بقاء النازحين داخل المخيم  إذ ذكر تقريراً لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكيةأن عشرات الآلاف من المدنيين المرتبطين بتنظيم داعشما زالوا معتقلين في معسكرات، من بينها مخيم الهولشمال شرقي سوريا، معتبرين أن المخيم بمثابة "قنبلة موقوتة"، فهناك قلق دائم ومستمر من تشكيل  جيل جديد من الجهاديين في المخيمات ، وهذا يُهدد أمن الشرق الأوسط، وفي مقدمة هذه الدول العراق فوجود المخيم بالقرب من الحدود العراقية يُعتبر بمثابة تهديد للأمن القومي العراقي، إذ يرى خبراء ومراقبون أن فك عقدة مخيم الهول الذي يعد من أكبر فلول داعش يتطلب تضافر الجهود الدولية والعراقية، وأن عودة أكثر من ٣٠  ألف عراقي، بينهم عدد كبير من عناصر داعش وعائلاتهم، وهي عملية معقدة للغاية وتستغرق وقتاً طويلاً، وتحتاج إلى  خطط وآليات  للتدقيق والفرز بين من يمكن إعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع، ومن يعملون كخلايا نائمة لداعش.

 

2-  مشكلة المياه: يحظى ملف المياه المتدفق من نهري دجلة والفرات بأهمية كبيرة بالنسبة للعراق، لأن العراق يعتمد بشكل كبير على نهري دجلة والفرات، إذ تشكل المياه ركيزة أساسية ومهمة للأمن الغذائي والمجتمعي، وخلال السنوات الماضية تفاقمت أزمة المياه في العراق نتيجة سوء استخدام المياه ونتيجة التغيرات المناخية والبيئية، وانخفاض نسبة الإمدادات من دول المنبع، تركيا وإيران وسوريا، كمّا  قامت الدول المذكورة في بناء السدود لغرض إعادة توجيه مجرى الأنهار المشتركة لتأمين احتياجاتها، وهذا ما يضع العراق أمام تحدي خطير يهدد الأمن القومي ، وللأسف فإن صانع القرار العراقي لم يتعامل مع هذا الملف على أنه يُمثل قضية حيوية ومهمة للعراق، ولم تكن الدبلوماسية العراقية فعالة في هذا الملف المهم، ومن المفترض أن يستغل صانع القرار العلاقات التجارية مع تركيا وإيران لتحقيق تقدم في ملف المياه، إذ يمكن للعراق أن يستفيد بشكل استراتيجي من عرض طرق العبور الجديدة والفرض المحتمل للرسوم الجمركية كحوافز فعالة للتعامل مع هذه الدول، وكلاهما يقدّر العراق بشكل كبير كسوق تصدير مهم، إن التجارة لا يمكن فصلها عن أمن الحدود، حيث أن تعاون العراق في معالجة مخاوف إيران وتركيا بشأن النشاط المسلح عبر الحدود من الممكن أن يشكل أداة ضغط قيمة في أيدي المفاوض العراقي.

 

3-  قضية سنجار: برزت قضية سنجار نتيجة سيطرة تنظيم داعش على مدينة سنجار عام 2014، وبعد تحرير القضاء من القوات الأمنية العراقية عام 2017، لا يزال ملف سنجار عالق ولم تتم تسويته نتيجة الصراعات الإقليمية والمحلية على موقع وموارد القضاء، إذ يرى الدكتور فراس الياس، أستاذ العلاقات الدولية، “ أن طبيعة الصراع في سنجار بعضها ينبع من طبيعة الواقع العراقي الداخلي المتمثل بالصراع على النفوذ والسيطرة على سنجار، وبعضها الآخر  يرتبط بحقيقة جزء من صراع إقليمي" ويعد حزب العمال التركي "pkk" أحد الأحزاب الفاعلة في سنجار، وهذا ما يعطي تركيا الذريعة الكاملة نتيجة الاتفاقيات السابقة بين تركيا والعراق، والتي تسمح لتركيا في الدخول إلى الأراضي العراقية لمكافحة أنشطة حزب العمال التركي وهذا ما يجعل من الأراضي العراقية ساحة تصفية وصراع مستمر بين القوات العسكرية التركية من جهة وحزب العمال التركي من جهة أخرى وهذا ما يشكل تهديدا  بالغ الخطورة على الأمن القومي العراقي.

 

4_الوجود العسكري الأميركي: يمكن إرجاع سبب الوجود الأميركي في العراق إلى حدثين مهمين، الأول قدّ كان نتيجة غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003 والإطاحة بنظام صدام حسين، أما الحدث الآخر فكان نتيجة ظهور وصعود تنظيم داعش واحتلال مساحات واسعة من مدن العراق، وبعد عقدين من الوجود العسكري الأمريكي في العراق، والذي تبرره الإدارات لأمريكية بحجة مساعدة العراق في مكافحة إرهاب فلول داعش، لكن السبب الحقيقي للتواجد  لأمريكي في العراق يعود إلى أهمية موقع العراق وموارده الاقتصادية والحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة والحد من النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، وهذا ما جعل العراق على مدى السنوات الماضية ساحة صراع بين أطراف دولية وإقليمية، ممّا يعني أن استمرار تواجد القوات الأمريكية بمهمات عسكرية يشكل خطراً على الأمن القومي العراقي ويجعل من العراق ساحة صراع بين الأطراف المتنازعة.

 

وفي الختام يمكن القول أنه عند صياغة استراتيجية للامن القومي لمواجهة التحديات والمخاطر التي تواجه العراق، فأن نجاح تلك الاستراتيجية يعتمدّ بالدرجة الاولى على تقييم بيئة التحديات والمخاطر والتهديدات، ومن ثم العمل على اختيار أفضل السبل والخطوات لمعالجة تلك المشكلات والملفات التي تشكل خطرا دائما على المجتمع والدولة والتي تهدد استمرار العملية السياسية والنظام السياسي الحالي، إذ  يواجه العراق اليوم مجموعة من التحديات، بعضها يمكن إرجاعه إلى السياسات الخاطئة التي ارتكبها النظام السابق على المستوى المحلي والاقليمي والدولي، وأخرى رافقت تأسيس النظام السياسي الجديد، والمشكلة هي أن الحكومات العراقية المتعاقبة، لم تضع حلولا جذرية لحل تلك المشاكل، وانتقلت من حكومة إلى  حكومة أخرى، إذ باتت اليوم تشكل تهديداً للأمن القومي العراقي، ولذلك من المهم اليوم أن تتضافر الجهود الحكومية والمجتمعية لمعالجة تلك الملفات.

 

الهوامش:

1_ علي صادق كريم، السياسات العامة لمكافحة الجريمة المنظمة في العراق بعد عام 2003، مجلة حوار الفكر، المعهد العراقي للحوار، 2023، العدد66، ص67.

2_
علي فارس حميد، الامن القومي في العراق رؤية مفقودة وتوافقية مهيمنة، مجلة الامن القومي العراقي، مركز رواق بغداد للسياسات العامة، 2023، العدد9، ص118

3_
علاء حميد إدريس، الأمن القومي في العراق بعد عام 2003، مجلة الامن القومي العراقي، مركز رواق بغداد للسياسات العامة، 2023، العدد9، ص4

4_
فرهاد علاء الدين، امن العراق ونظامه السياسي، منتدى فكرة، للمزيد ينظر للرابط https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/dwlt-tthawy-fshl-amn-alraq-wnzamh-alsyasy

5_
فراس الياس، معضلة سنجار: حزب العمال الكردستاني والأمن الوطني العراقي، مركز البيان للدراسات والتخطيط ، للمزيد ينظر للرابط https://www.bayancenter.org/2022/04/8377/

6_
محمد عزو، التغيرات في إولويات الأمن القومي العراقي، مركز رواق بغداد للسياسات العامة، 2023 ، العدد9، ص84