الأزمات الدولية وسلوك الناخب الأمريكي
التصنيف: مقالات
تاريخ النشر: 2024-05-26 10:52:07
تشغل أنتخابات الرئاسة الأمريكية مساحة واسعة من الاهتمام الإعلامي بوقت مبكر حيث تعد وسائل الإعلام المتنوعة التقارير وأستطلاعات الرأي والتحليل عبر أستضافة العديد من الباحثين والمحللين وخبراء عالم السياسة لقراءة كل تفاصيل العملية الانتخابية قبل بدايتها إلى أعلام نتائجها ، وينبع هذا الاهتمام لطبيعة الدور الكبير الذي تشغله الولايات المتحدة الأمريكية في السياسة العالمية حيث لا زالت تصارع من أجل الحفاظ على هيمنتها العالمية كقطب أوحد وحماية أمنها القومي المتمدد مع نفوذها المنتشر في كل العالم .
تشير أستطلاعات الرأي الأمريكية أن القضايا المحلية مثل الاقتصاد والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي ومستوى التعليم وموضوع الإجهاض تحتل الصدارة في أهتمامات الناخب الأمريكي والتي تحدد سلوكه التصويتي في الانتخابات ، لكن هذا لا يمنع من أن يكون للسياسة الخارجية أو الأزمات الدولية الخارجية ومواضيعها مساحة مؤثرة في الحضور والتأثير على أولويات الناخب الأمريكي خاصة تلك التي تؤثر على رفاهية حياة الناخب الأمريكي مثل الحروب التي تكون الولايات المتحدة طرفا مباشرا أو غير مباشر فيها ، أو المواقف أو التحالفات الخارجية التي يجد فيها الناخب تهديدا لقيم الليبرالية التي يؤمن بها .
تشير القراءة التاريخية لتأثير السياسة الخارجية على الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة الأمريكية أن هاجس الدخول في الحرب العالمية الاولى كان حاضرا في ذهنية الناخب الأمريكي حيث خاطب- وودرو ويلسن -مرشح الحزب الجمهوري لانتخابات عام 1916 ناخبيه بالقول( أني أعلم أنكم تعتمدون علي في تجنيب الامة ويلات الحرب، لقد فعلت ذلك حتى هذه اللحظة، وأني أقطع على نفسي عهدا أن أفعل ذلك مستقبلا ).
وعندما بدأت الحملة الانتخابية لانتخابات الرئاسة في عام 1968 كانت الحرب الفيتنامية القضية المحورية في البرامج الانتخابية للحزبين الجمهوري والديمقراطي الذي حاول كل منهما أقناع الناخبين بتقديم مشروع مقبول لحل المشكلة الفيتنامية بعد موجة الاحتجاجات الكبيرة التي شهدتها المدن الأمريكية على أستمرار الحرب وفظائعها الإنسانية وتأثيرها على رفاهية الحياة الأمريكية بسبب تكاليفها الباهضة .
بينما شكل فشل الرئيسي الأمريكي - جيمي كارتر -في أطلاق سراح الرهائن الأمريكيين في سفارة الولايات المتحدة في طهران بعد أنتصار الثورة الإسلامية في إيران نموذجا واضحا لتأثير الأزمات الدولية على تصويت الناخب الأمريكي حيث، خسر كارتر الانتخابات أمام منافسه الجمهوري - رونالد ريجان - في أنتخابات عام 1980.
وتصدرت الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 أهتمامات الناخب الأمريكي ، فالانتصار الأمريكي في الحرب وأسقاط نظام صدام حسين الذي عد في وقتها نصرا للديمقراطية الأمريكية كان عاملا مهما في تجديد ولاية ثانية للرئيس الأمريكي - جورج دبليو بوش - في أنتخابات عام 2004،لكن بقاء القوات الأمريكية في العراق وتعرضها للمزيد من الخسائر بالأرواح وعدم النجاح في أستقرار الوضع السياسي في العراق كان العامل المباشر في خسارة الرئيس بوش وفوز المرشح الديمقراطي - باراك أوباما- الذي ركز في خطابه الانتخابي على سحب القوات الأمريكية من العراق أستجابة للرفض الشعبي لبقائها وفعلا قام بذلك بعد فوزه في أنتخابات عام 2008.
اليوم ومع أقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024 فأن هناك حدثين أو أزمتين خارجيتان سيفرضان وجودهما بقوة على البرامج الانتخابية على المتنافسين الجمهوري -دونالد ترامب - والرئيس الديمقراطي -جو بايدن - وكذلك سيكونان محل أهتمام الناخب الأمريكي لان تداعيات الأزمتين تركت آثارا واضحة على الداخل الأمريكي تجلت بفعاليات متنوعة وردود أفعال مثيرة قد تغير في السلوك التصويتي للناخب الأمريكي .
الأزمة الاولى هي الحرب الروسية الاوكرانية المستمرة منذ سنتين والتي أرهقت الميزانية الأمريكية بحجم الدعم المقدم إلى أوكرانيا من الاموال والأسلحة والتي لم تغير في واقع المواجهة العسكرية، أضافة إلى تداعيات هذه الحرب الاقتصادية الكبيرة نتيجة العقوبات المفروضة على أستيراد الغاز والنفط الروسي إلى الولايات المتحدة وأوربا الغربية.
أن مثل هذه الأزمات الاقتصادية الداخلية والناتجة من أزمات دولية تكون الولايات المتحدة طرفا فيها
تنتج قلقا عند الشعب الأمريكي وخوفا أكبر من أستمرارها وتفاقمها وهذه يحدث تغييرا في مزاج الناخب الأمريكي يؤدي إلى تغيير في نتائج الانتخابات.
ومثلت الحرب على غزة الأزمة الأخطر تأثيرا على الشارع الأمريكي حيث لا مست تداعياتها المنظومة القيمية للنظام السياسي والمجتمع الأمريكي القائم على مثل الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي تمثل صميم السياسة الخارجية المعلنة للولايات المتحدة الأمريكية ، حيث كشفت هذه الأزمة حجم التناقض بين التنظير وواقع السياسة الخارجية الأمريكية ، ففي الوقت الذي تقدم الادارة الدعم السياسي والعسكري الكبير للكيان الصهيوني الذي أرتكب جرائم أنسانية ومحاور وحشية بحق المدنيين والنساء والأطفال في غزة يضغط الشارع الأمريكي اعبر الاحتجاجات الطلابية الواسعة الى أيقاف الدعم إلى حكومة الكيان الصهيوني ووقف أطلاق النار، وتكمن خطورة هذه الأزمة على العملية الانتخابية أن من يقود هذه الاحتجاجات هم طلبة الجامعات الذين يمثلون الشريحة الأكثر فاعلية والأكثر مشاركة في العملية التصويتية في الانتخابات الرئاسية وأن تصويت الشباب عامل حسم مهم في نتائج الانتخابات المقبلة.
ووضعت أحداث غزة الرئيس الأمريكي بايدن في زاوية حرجه مقابل منافسه الجمهوري ترامب ، فهو يحاول أن يحدث موازنة دقيقة في سياسته الخارجية يضمن من خلالها تصويت الجاليتين اليهودية من جهة والجالية العربية والإسلامية من جهة أخرى وأعتقد أن من الصعوبة تحقيق هذه الغاية في ظل تعقد الأزمة وأتساع حركة الاحتجاج الشبابية التي دائما يعول عليها الحزب الديمقراطي في التصويت الرئاسي.
من خلال ذلك نستطيع القول أن التداخل الكبير بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية وتأثير أحدهما على الاخر ، مع زيادة التدخلات الأمريكية في الخارج وهي تمارس القطبية الاحادية وزيادة حدة التنافس مع أقطاب عالمية منافسة وصاعدة فرض نمطا جديدا من الأوليات في الانتخابات الأمريكية يمكن أن تنتج سلوكا أنتخابيا أكثر تأثرا بالسياسة الخارجية والأزمات الدولية.
الباحث
زهير حمودي قنبر
قسم الدراسات السياسية
مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية