محرقة غزة …تغلي الجامعات الأمريكية

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2024-05-05 12:03:30

زهير حمودي الجبوري

قسم الدراسات السياسية

مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية

 

من ذات الحرم الجامعي الذي أطلق شرارة الربيع الطلابيّ عام 1968 ضد سياسة الفصل والتمييز العنصري الذي تمارسه الحكومة الأمريكية، عاد  جامعة كولومبيا العريقة إلى قيادة الحراك الطلابيّ الذي تشهده الجامعات الأمريكية  ضد السياسات الأمريكية الداعمة لأسرائيل في حربها على غزة  وما رافقها من إنتهاكات إنسانية فظيعة تهدد منظومة القيم الغربية التي تتفاخر بها.

ورغم القمع والاعتقالات والتهديد الذي مارسته السلطات بحق الطلبة المحتجين توسعت مساحة الاحتجاجات لتعم أغلب الجامعات الأمريكية  من لوس أنجلس  إلى نيويورك مرورا بأوستن وبوسطن وشيكاغو وأتلانتا، بل أن عدوى الاحتجاجات وصلت إلى عاصمة الثقافة وثورة الحريات باريس حيث أعلن طلبة الجامعات الفرنسية عبر المسيرات والاعتصامات رفضهم لسياسة ماكرون الداعمة لأسرائل ومطالبة بإيقاف الحرب على غزة لما تمثله من إنتهاكات صارخة لحقوق الإنسان وتجاوز صريح على القانون الدولي الإنساني  لتعيد الذاكرة إلى الثورة الطلابية التي شهدتها باريس في نهاية الستينات من القرن العشرين  ضد الحرب الأمريكية على فيتنام والتي عدت في حينها نقطة تحول ثقافية واخلاقية واجتماعية.

المخاوف والحيرة البادية على السلطات الحكومية في التعامل مع هذه الاحتجاجات كونها من سياقات العمل الديمقراطي التي ترفع رايته الولايات المتحدة وبنفس الوقت أنها توجه مسائلة وإستفهامات مباشرة إلى  السياسة الخارجية الأمريكية ومطالبة بأعادة النظر في تحالفاتها الخارجية في ظرف دولي يبشر بزوال القطبية الاحادية  ويمهد إلى بروز أقطاب صاعدة.

وقد شكلت هذه الاحتجاجات هواجس كبيرة في الداخل الأمريكي قد تنذر بتحولات اجتماعية وأخلاقية مهمة، فهي  انطلقت بتأثير حدث خارجي ودولي خارج الجغرافية الأمريكية تمثل بالحرب الصهيونية على غزة وما رافقها من مجازر وحشية يندى لها العالم الذي يدعي التحضر،  كما الدافع المثير لهذه الاحتجاجات  دفاعا عن القيم العليا للمجتمع الغربي والتي ينادي بها النظام السياسي والفكر السياسي الغربي الذي يقوم على مفاهيم حرية التعبير وحقوق الإنسان وقوانين العدل الإنساني وحماية المدنيين والمواقع والمؤسسات المدنية التي تم تجاوزها ونسفها في الحرب على غزة، فمن المعيب ان يدعم الغرب دولة مارقة على قرارات المؤسسة الاممية التي أوجدها الفكر الغربي لحل النزاعات والصراعات الدولية، بل إن هذه الدولة المارقة رفضت حتى الامتثال لقرار محكمة العدل الدولية بإيقاف الحرب على غزة .

كما لا يمكن تجاهل الدور الذي تلعبه هذه الجامعات بما تملكه من شراكات دولية مع جامعات عالمية ومؤسسات بحثية ومراكز فكرية وحتى معاهد علمية ومؤسسات صناعية في دول مختلفة تسمح لتوسع قاعدة الرفض الدولي لهذه الحرب مما يشكل ضغطا كبيرا على السياسة الخارجية الأمريكية ومنظومة قيمها الإنسانية، ومن مخاطر هذه الاحتجاجات على النظام السياسي الأمريكي والغربي هو  أن الكثير من الباحثين وأساتذة الجامعات والاكاديميين والنخب المثقفة وصناع الرأي العام في العالم الغربي انخرطوا في دعم وتأييد  هذه  الاحتجاجات مما يمهد لترسيخ مساحتها إلى قطاعات أخرى متضامنة مع الوسط الطلابيّ المنتفض.

السؤال الذي بات يطرح نفسه بقوة هل أن حرب غزة وتداعياتها ستجعل الحضارة الغربية على مفترق طريق الانحدار، بعد أن كشفت عورتها في ظل صمتها الرهيب على محرقة غزة على عكس موقفها من محرقة الهولوكست؟

تفيد الدراسات أن قيام أي حضارة لابد لها ان ترتكز على ركيزتين هما الركيزة المعنوية المتمثلة بالدين والقيم والثقافات والاخلاق والقوانين والنتاج الفكري والخطاب الإنساني، والركيزة المادية والمتمثلة بالعلم والقدرات الاقتصادية ومكامن القوة والابتكار والامن والتصنيع والبناء والعمران والاختراعات، وأن أي خلل أو نكوص في ركيزة من هاتين الركيزتين يشكل تهديدا وجوديا لهذه الحضارة كما تشير الدراسات التاريخية لنشوء الحضارات وتطور الامم والمجتمعات.

فهذا عبد الرحمن بن خلدون يشبه الحضارات بعمر الإنسان حيث يقول للحضارات أعمار طبيعية مثلها في ذلك مثل الأفراد وان العمراني البشري والاجتماع الإنساني لابد له أن يصل إلى مرحلة الشيخوخة والهرم، ويأتي من بعده الإيطالي - جيوفاني فيكو - عالم فلسفة التاريخ على ان الحضارات تطور حتمي خاضع لقانون تعاقبي بين التقدم والنكوص لنشوء المجتمعات وتطورها ثم أنحطاطها، فالتاريخ حسب - فيكو - يسير بشكل دائري ، وتشير الدراسات أن مقدمات الانهيار والنكوص الحضاري هو الانهيار القيمي والاخلاقي الذي تقف وراءه ممارسة الظلم والطغيان والترف والاستكبار وبروز النزعة المادية وغلبة المصالح على القيم والاتكال على القوة المادية وغياب العدالة الإنسانية، وهذا ما يتجسد اليوم بشكل جلي من مواقف الغرب من العدواني الصهيوني على غزة، فرغم كل هذه المجازة والمأساة الإنسانية التي ينقلها الإعلام بشكل يومي وبالرغم من قرار مجلس ومحكمة العدل الدولية القاضيان بإيقاف هذه الحرب المجنونة لازالت الدول الغربية تقدم الدعم العسكري للكيان الصهيوني سواء بتقديم الدعم العسكري والاقتصادي والمعنوي من خلال التأييد بالمواقف السياسية في المحافل الدولية، وهذا ما حرك الشارع الغربي المدافع عن منظومة قيمه المنتهكة من قبل انظمته السياسية بتظاهرات واعتصامات عمت جميع عواصم الدول الغربية وآخرها الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الغربية التي أن تكون نقطة تحول أخلاقية وثقافية وأجتماعية في المجتمعات الغربية  تمهد لتراجع هيمنة الحضارة الغربية على العالم  بعد وصولها مرحلة الهرم والنكوص بتخليها عن منظومتها الاخلاقية والقيمية.